-A +A
أحمد الشيخي *
قبل أيام قلبت أمي ماضيا طويلا يمتد من طفولتي إلى أيام ماضية قليلة، ومن ضمنها تاريخ حقبة زمنية كانت مؤثرة في حياتي.

كتب، مجلات، مذكرات جامعية، بحوث، ومن ضمن هذه البحوث، بحث قلبته على عجل فوجدت نفَسَاً مطبوعا على الكتابة؛ خاصة في دقائق النفس الإنسانية؛ وكأن جزءا من روح دوستويفسكي حلت فيه، قلبت بعض الأوراق وغصت في بعض السطور وشرقت بدمعتي عند بعض التعبيرات؛ تذكرت غرفتك.. ومكتبة والدك.. والوانيت ٨٧ والصيرورة التي كانت تحلق بنا دون شعور منا بذلك.


لن أقول ليت ذلك الزمان يعود يوما لأنه ورقة في صفحات حياتنا وجزء من ذكرياتنا.

عنوان البحث: «القصة وأثرها التربوي» بحث مقدم كجزء من متطلبات مادة المكتبة والبحث لـ«طاهر الزهراني».

العام ١٤١٨/١٤١٩هـ، الصف الثالث (ب) شرعي!

عقدان من الزمن! بالطبع أتذكر فترة كتابة طاهر لهذا البحث، وأتذكر الروح المفعمة التي كانت تسري في جسده وتبعث الأدرينالين الذي ندركه في حركة وحديث طاهر المفعم بالحماسة.

وهذا الكنز وجدته ضمن كومة من الذكريات بقيت في حماية وحراسة والدتي، وكم تحتفظ أمي لي من أسرار فالمجد لك يا أماه. وعندما وقعت عيناي على بحث طاهر شهقت كطفل وقع على أجمل لعبة أو أشهى حلوى. هجمت على البحث وأسرني الغلاف الورقي البسيط الملون كبساطة ذاك الزمان وبساطة كاتبنا الإنسان، قلبت البحث وسحرني خط طاهر الذي ما زالت حركته تسري في النص إلى الآن بينما كثير من النصوص تموت.

وأما البحث، فإن ما استرق روحي الباب الثاني المتعلق بالآثار التربوية للقصة؛ تلك الآثار المسطرة بلغة لا يصدق القارئ أنها لطالب في تلك السن لأن اللغة كبيرة ككبر عقل وخبرة وروح وإنسانية طاهر..

إن النفس الإنساني البارز في لغة طاهر ينبئ عن كاتب مطبوع على الكتابة والنزعة الإنسانية والتي ستكون علامة مميزة لطاهر ككاتب وكإنسان، هذه الروح والتي تسري في روايات طاهر من «جانجي» إلى «الفيومي» هي ما يميز طاهر وهل يلام طاهر؟

فالإنسان يستحق ذلك وأكثر، الإنسان الذي يقهره أخوه الإنسان، الإنسان الذي حرمت عليه أنظمة الاستبداد كل شيء حتى حق المنامات البريئة، الإنسان المستعبد في زمن حقوق الإنسان، والذي مكننته جشع وأنانية إنسان آخر.. الحب في رواية «الميكانيكي» ثورة ضد الأحكام الانطباعية والتي تتصور «الصنايعية» كأكوام لحم بلا مشاعر؛ لأن أبسط الأمور أن نحتكر معالم الإنسانية ونوزعها كإقطاعيات تبعا للعقلية القبلية ولا نتصور أن غير الإقطاعيين من الملونين والمعاقين والفقراء والبسطاء وأبناء الأزقة و«الكدادين» لهم الحق في الإنسانية والعيش، هذه الإنسانية التي انبرى طاهر ليكون من ضمن المحامين والمنافحين عنها دون أتعاب أو شهرة؛ فقط لأن طاهر إنسان ويدرك قيمة الإنسانية.

إن هذه الأعمال العظيمة والتي لا تؤمن بالاصطفاف في رفوف المحسوبيات هي التي ستبقى وستخلد وستجد الأرضية الواسعة والصدى المتردد في فسيح الكون لأن الكون يؤمن بالإنسان، إن الحبر الذي تكتب به سطور هذه الأعمال مدادها معاناتنا.. آلامنا.. طموحنا.. أحلامنا... صراعاتنا.. وهذا المداد مداد خالد، وهذا الخلود والمجد هو ما يميز الأعمال الإنسانية عن غيرها في لغة بعيدة عن ألغاز الأسطورة وسطو الانتهازيين وحقارة الماديين. فليعش الإنسان، فلتعش الإنسانية.

* كاتب سعودي