-A +A
منيرة المرشود
«لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال».. علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الجدالات في حياة الإنسان شيء ضروري، بل يكاد لا يمر يوم دون أن يخوض المجتمع جدالاً حول أمر معين -كلٌ حسب اهتماماته- وذلك بسبب الاختلاف الذي يتمايز به البشر، والنقاشات بأنواعها، والناتجة عادةً عن الاختلاف شيءٌ مفيد؛ لأنها تعرفنا على بعضنا وتعلمنا أشياء جديدة، ولكن لكل شيء ما يفسده، فمن المفسدات لذلك ما يعرف بمصطلح «الشخصنة» وهي تعني الهجوم على الأشخاص لا على الأفكار؛ بمعنى أن يقيّم الشخص الفكرة بناء على توجهات صاحبها، أو رفضها بحجة أن صاحبها ليس بكفء، فتموت الآلاف من الأفكار وتُخسر مئات المعلومات وتُهدم ملايين الآراء بسبب تركيزنا على قائلها، كما أنه لا يوجد أحد خالٍ من العيوب، فكيف نرفض رأياً لمجرد أن صاحبه يعيبه أمر ما؟ إن كنا نبحث عن الأفكار التي لا يعيب أصحابها شيء فلن نجدها، لأنه لا وجود لشخصٍ كامل.


وهناك نوع آخر أظنه يندرج تحت مفهوم الشخصنة، وأعرّفه بأنه تقديس الأشخاص لا الأفكار، بمعنى أن تُمتدح الفكرة ويُرحب بها لأن صاحبها ذو مكانة اجتماعية عالية دون النظر إلى الفكرة، فتُقبل العديد من الأفكار فقط لأن فلاناً من الناس قالها حتى إن كانت مليئة بالأخطاء والمغالطات، وفي رأيي فإن هذا أخطر بكثير، فإن كان النوع الأول يحرمنا من بعض الأفكار الجميلة فإن الثاني يجعلنا نأخذ بأفكار وآراء قد تضرنا.

في بعض الأحيان قد تكون الشخصنة حجة وعذرا للبعض في طرح آراء هم أصلًا لا يعتقدون بها، وهم ما أسميهم أو يسميهم البعض بـ«المستشرفين»، والاستشراف هو إظهار الصلاح والتقى ومعاتبة الأفراد على أخطائهم ثم الإتيان بمثلها أو أشد منها بالخفاء، فمثلًا تجد شخصاً يعطي رأياً في موضوع معين ويفعل عكس رأيه أو يعيب على فعلٍ ما -وبغض النظر عن صحة هذا الفعل من عدمها- وهو يفعل مثله بالضبط، وتلقاه أحياناً يوجه فلاناً ويعيب آخرَ وينتقد ثالثاً، ثم إن طالبته أن يُصَلِح ذلك في نفسه، رد وقال: لا تشخصن ناقش فكرتي!

يتهمك بالشخصنة إن كشفت أمره ويخبرك أن تحترم الفكرة، بينما هو ذاته لا يحترمها ويفعل ضدها، فكيف تصدقه وتأخذ بكلامه وهو يفعل ما ينهى عنه ويترك ما يأمر به؟

وعموماً الشخصنة فعلٌ خاطئ بلا شك، سواءً عند استخدامها في تقديس الأفكار لأصحابها أو تدنيس الأفكار لأصحابها، وإن استغل «المستشرف» كونها كذلك بنهي الناس عما يفعله هو أو العكس.

يقول فولتير: «كن شديد التسامح مع من خالفك الرأي، فإن لم يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك برأيك»، قد يكون معك كامل الحق، وقد يكون رأيك هو الصواب، لكنك بتعصبك تنقاد دون شعور منك للشخصنة، فتكون بذلك في موضع المخطئ.

وأخيراً وبغض النظر عن استغلال «المستشرفين» لكل ذلك، فإني أتساءل بحرقة متى نتعلم النظر للأفكار لا الأشخاص، متى نتعلم أن نقيم الفكرة دون النظر إلى مكانة قائلها، متى نتعلم ألا نظلم أنفسنا بتطبيق أفكار لأننا نقدس أصحابها، وألا نحرم مجتمعنا من أفكار لأننا نستحقر من قالها.

marshwd@