-A +A
طلال صالح بنان
من أكثر مظاهر واقع السياسة الدولية غموضاً وإرباكاً، ما يعرف بسلوك الدول في التدخل في شؤون بعضها الداخلية. وإن كان مبدئياً، عادةً ما تعلن الدول عن تمسكها بعدم التدخل في شؤون غيرها من الدول، إلا أن الدول كثيراً ما تعمد إلى محاولة التدخل تلك، في مخالفة صريحة لما تعلنه عكس ذلك. إلا أن الدول، في حقيقة الأمر، لا تعلن صراحةً أنها تتدخل في شؤون غيرها من الدول، لأنها بذلك سياسياً وأخلاقياً تظهر مخالفتها لأهم قواعد التعامل الدولي المرعية والشديدة الحساسية. الأهم هنا من الناحية السياسية والأمنية: أن الدول لا تلجأ لسياسة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى علناً، تفادياً لمبدأ: المعاملة بالمثل.

في حقيقة الأمر: الدول كثيراً ما تلجأ للتدخل في شؤون غيرها من الدول، من أجل خدمة مصالحها الوطنية وأمنها القومي، إذا ما هي بالفعل أرادت أن تتبع سياسة خارجية كفؤة وفعالة تستحق ما تستثمره من موارد مادية ومعنوية للإنفاق عليها. بل إنه من أكثر الاقترابات عملية وفاعلية، لإدارة الدولة لسياستها الخارجية: اتباع سياسة خارجية تداخلية هجومية، لخدمة القضايا التي تتصدى لها، إقليمياً ودولياً. على الدولة، إن هي بالفعل تريد أن ترفع من سقف توقعاتها جراء انخراطها في محيطها الدولي والإقليمي، بما يزيد من قدراتها في خدمة أهداف سياستها الخارجية، عليها أن لا تكتفي بردود الأفعال تجاه حركة السياسة الإقليمية والدولية، التي تتفاعل في محيطها، بل عليها أن تكون أكثر هجومية وإيجابية، بإحداث تغييرات في سلوك الدول الأخرى لكي تتجاوب مع مطالبها.


الدولة، على سبيل المثال: عندما تسعى لحشد تأييد دولي لسياستها الخارجية تجاه قضية دولية أو إقليمية ما، إنما هي، في حقيقة الأمر تحشد ما تستطيع من مواردها الوطنية، من أجل تحقيق هدف تبنيها وتصديها لتلك القضية. الدولة في مسعاها هذا قد تلجأ لسلوكيات أكثر عنفاً، استغلالاً لإمكاناتها الاقتصادية ونفوذها الإقليمي والدولي... بل وحتى أحياناً لما تمتلكه من إمكانات ردع إستراتيجية. مثل هذا الاقتراب التداخلي الهجومي، الذي من المحتمل أن يصل لأقسى درجات الضغط بل وحتى القسر، هو من الناحية التحليلية يعتبر من أكثر محددات تتبع السياسة الخارجية لدولة ما، وإن كان بالضرورة، يتجافى مع مبدأ العلنية في السياسة الخارجية، تحليلياً. الحرب، مثلاً: ما هي إلا محاولة عنيفة لإقناع الخصم الدولي لتغيير مواقفه التقليدية من قضية ما تكون سبباً لخلافٍ معه، تطور في حالة فشل جهود احتوائه، إلى الحرب.

لكن في كل الأحوال على الدولة عندما تتخذ مثل هذا السلوك التداخلي الهجومي، لمحاولة التأثير على صانعي السياسة الخارجية في المحيط الإقليمي والدولي، لإعادة رسم وصياغة سياستهم الخارجية لتتكامل أو تتوافق مع أهداف سياستها الخارجية، عليها أن تقوم بذلك ضمن أدوات وآليات وسلوكيات تتوخى أقصى درجات الحيطة والحذر.. مع الإعلان عن تمسكها بقواعد التعامل الدولي.. واحترامها لسيادة الدول.. وتثمينها للتعاون معها، مع تأكيدها على أن سلوكها هذا متسق مع حبها للسلام.. ودعمها للاستقرار الإقليمي، وسلام العالم وأمنه.

في المقابل: على الدولة عندما تتبع سياسة خارجية تداخلية للتأثير على مواقف وسياسات أطراف دولية أخرى، خدمةً لأهداف سياستها الخارجية، عليها أن تطور داخلياً إستراتيجية دفاعية محكمة، لتفادي وردع أية محاولات مماثلة أو ارتدادية متوقعة من الأطراف الدولية المحتمل لجوؤها لمثل تلك الدبلوماسية الهجومية، تحصيناً لمؤسسات صناعة السياسة الخارجية بها. على سبيل المثال: عليها أن ترفع من وتيرة اتصالاتها الخارجية.. كما عليها أن ترفع من كفاءة أداتها الدعائية.. وكذا من قدراتها الاستخباراتية.. وأن تكون مستعدة لضخ موارد مادية واعتبارية في شرايين سياستها الخارجية، كافية لجلب المؤيدين والحفاظ على الحلفاء التقليديين والانخراط بشكل مكثف في مؤسسات النظامين الإقليمي والدولي... وأهم، من كل ذلك، الحفاظ دائماً على قوة ردع إستراتيجية كفؤة وفعالة، تعتمد أساساً على إمكانات ذاتية متمكنة.. وعلاقات تحالف تاريخية (مصلحية)، مع قوى إقليمية ودولية مؤثرة.... بالإضافة إلى استقرار داخلي، يحظى بشرعية سياسية حقيقية.

باختصار: مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير الداخلية، في علاقات الدول بعضها ببعض، يقترب من الأسطورة عنه من الحقيقة والواقع. في بيئة إقليمية ودولية غير منضبطة تفتقر لأدوات ردع فعالة لضمان احترام قانونها وقواعد التعامل المرعية بين أطرافها، من الصعب، بل من الخطورة على الدول أن تركن لما تعلنه الدول الأخرى من احترامها لسيادة بعضها البعض.. ومن حبها للسلام.. ومن نبذها للعنف لحل الخلافات بينها.. ومن ميلها للتعاون، وكرهها للصراع... إلخ.

الدول، في سياستها الخارجية، تتصرف بأنانية مفرطة، مشبعة بعدم ثقة مزمنة في قيم ومؤسسات النظام الدولي.. وبتوجس تقليدي من محيطها الإقليمي. كما أن الدول لا تتورع عن التدخل في شؤون غيرها من الدول، طالما أنها تأمن الاقتراب، وبمقدورها دفع تكلفة ذلك. إذا ما ثمّنت الدولة سيادتها غالياً.. وإذا ما اتبعت سياسة خارجية غير تقليدية، لا تكتفي فقط بردود الأفعال، بل الانخراط الفعّال التداخلي الإيجابي في محيط السياسة الإقليمية والدولية، خدمة لمصالحها وذوداً عن أمنها، فإن حشد ما يلزم لذلك من مواردها الوطنية، إنما يُعدُ استثماراً مجدياً من الناحية الإستراتيجية والأمنية لضمان بقاء الدولة واستمرارها.. بل وتطورها.. وزيادة نفوذها الإقليمي، وثقلها الدولي.