-A +A
حمود أبو طالب
الكاتب الملتصق بصحيفته، الذي يعيش علاقة حميمة مستمرة معها، كالابن الذي يعيش في بيت عائلته، حتماً لا بد أن ينسى أو تفوت عليه بعض التفاصيل والمناسبات الخاصة بالبيت، لأنه جزء منه وعضو فيه وفرد من بقية الأفراد، تشغله زحمة الكل عن ذكريات الذات، إلا إذا ما أشعلها أحد في ذاكرته ذات لحظة تقادم وتعتّق فيها الزمن. وهذا ما فعلته عكاظ بذاكرتي يوم أمس وجعلتني أصبُّ جام غضبي على هذه الذاكرة المثقلة والمنهكة بأشياء تغفر لها السهو والنسيان، لكن ربما لا تغفر لها مناسبة مهمة وكبيرة تحدث في البيت الكبير.

قبل 24 عاما استدرجتني عكاظ إلى درب هواها، وأغوتني بعشقها الذي لم أبرح منه، ولم تخفف منه محاولات لأخريات بصرف قلبي عنها، حاولتُ دوزنة أوتار قلبي معهن لكن نوتة الحب الحقيقي كانت محفوظة في عكاظ. يومٌ لا أنساه حين بلغت بي الحماقة واللقافة منتهاها لأعلق على خبر طبي نشرته عكاظ، أو لأصححه بصيغة أدق، وإذا بتعليقي أو تصحيحي يُنشر في زاوية خاصة. لم أعر الأمر اهتماما كبيراً، لكن كان هناك صائد ماهر ينصب شراكه للفرائس المتهورة مثلي، ويقنعها بالاقتراب من الفخ حتى تصبح أسيرته، اسمه: هاشم عبده هاشم. حدث ذلك، واستسلمت للذة الاصطياد، ولم أكن أعرف أي عالم سأدخله وأنضم إليه، وأي نشوة سأشعر بها وأي عذاب سأعانيه.


فتح لي هاشم بوابة النعيم والجحيم، نعيم الشعور بأنك تقول شيئاً من أجل الوطن بصوت مقروء، وجحيم الاحتمال من أجل ما تقول. هاشم لا يجامل، لكنه إذا رأى فيك مقومات المغامرة فإنه يصقلها ويهذبها ويرتبها لتكون فريسة لائقة بعكاظ، الصحيفة التي كانت وما زالت تقيم الدنيا ولا تقعدها.

شاب يعاقر مهنة الطب، ويرى حروفه كل أسبوع تجاور -بجانب إشراقة هاشم- مشعل السديري، عبدالله جفري، علي عمر جابر، أنور جبرتي، عبدالله خياط، إياد مدني، عابد خزندار، وغيرهم من الكبار، أي حظ هبط عليه من السماء ليكون عضوا في هذه الأوركسترا حتى لو كان يعزف على آلة غير مسموعة لا تؤثر في المعزوفة.

لم يقتنع هاشم بتعذيبي أسبوعياً، بل قال لي ذات يوم بنغمة الإغراء والأمر وأنا أزور الصحيفة: خذ بعض الأوراق البيضاء واختلِ بنفسك في أحد المكاتب، وبعد ساعتين، ثلاث بالأكثر، أريد ستة مقالات يومية جاهزة. نعم يا مولانا؟؟ أجاب: جاك العلم. وأيضاً تهورت، لكن التهور هذه المرة استمر قرابة عقدين ولم يتوقف.

لم تكن علاقتي بعكاظ علاقة حرف فقط، بل علاقة بعالم مكتظ بأشياء كثيرة وحميمة جدا، أجبرتني على عشقها وإدمانها. مركز القيادة في مكتب الدكتور هاشم الذي يمر الجميع بجانبه خفافاً كالهمس. ركن الصحفي الاستثنائي مصطفى إدريس المكتظ بالأفكار المجنونة، مكتب أيمن حبيب حيث الصحافة والمجتمع في بوتقة واحدة، هاشم الجحدلي حيث تتم المناكفات والجدل والاعتراض على تدخله في بعض المقالات لكنك تخرج من مكتبه محباً له وراضياً عنه أكثر. سعيد السريحي حيث تستمتع بمقام اللغة والنقد وأشياء أخرى، أحمد عايل فقيهي حيث الشعر ولذعة النكتة الحاضرة بطعم الملح في بحر جيزان، صالة التحرير بكل المجانين المتناقضين الذين تستوعبهم ويخرجون منها كل يوم جنونا لذيذاً عاقلاً، علي فقندش وصفقته المدوية، محمد طلبة المايسترو العتيق الذي لم يخن سيجارة «كليوباترا»، طالب بن محفوظ، إبراهيم عقيلي، عدنان الشبراوي، و..و... ولا أريد أن أتورط في ذكر اسم واحد منهم وأنسى الآخر لأنهم (أجنّ) من بعضهم البعض ويمكن أن يعاقبوني عقابا عسيرا.

رحلت عنها ذات يوم، لكني لم أستطع خيانتها مع غيرها. أعترف أنني حاولت لكني فشلت، لأنها من أوقدت شرارة حرفي. هي ستينية الآن، لكني ما زلت أدوخ من رائحة ورقها، وأنهض مجنوناً ذات صباح على إيقاع خبطاتها، وأشتاق، أشتاق كلما تقادم بي العمر إلى رشفة فنجان قهوتها.

إنها الآن توظف كل عمرها وعقلها ونضجها من أجل الوطن، تحمل مشرطاً لا يستهدف سوى مكامن الأوجاع. لا تهادن، لا تتردد، لا تخاف الولوج إلى مخابئ المتربصين بالوطن، ولا تنثني عن الإقدام لمواجهتهم، سواء كانوا من الخارج أم من الداخل. يصفها المشبوهون بصفات هم أحق بها، لأنها كانت دائماً تطاردهم وتزيح الأقنعة عن وجوههم الكالحة.

ليقولوا ما يقولوا عنك يا عكاظ:

أما أنا فسأقول:

فاتنة أنتِ في الستين:

و....سنة حلوة يا «عكاظ»..