دقيقة صمت
دقيقة صمت
-A +A
يوسف عبدالله (جدة) okaz_online@
تباينت الآراء وتضاربت القصص حول بداية "دقيقة الصمت" التي تعبر عن حالة الحداد والحزن عقب الحوادث والكوارث أو الهجمات الإرهابية، فمن جانب يرى أنها بدأت من فرنسا، إلى آخر يعتقد بأنها فكرة وجهها صحفي عام 1919 من أجل ضحايا الحرب العالمية الأولى، إلا أن ما تعنيه هو الاحترام لروح الفقيد وإعطاء الوقت من أجل الدعاء على روحه والتأمل في الفاجعة.



وفيما يتردد السؤال: لماذا دقيقة الصمت ومن أين جاءت فكرتها؟، وإلى ماذا ترمز وكيف أصبحت تقليدا عالميا؟، تطل للباحث إحدى الروايات التي تصفها بأنها تقليد فرنسي بعد أن أقرتها بتاريخ 25 أكتوبر من عام 1919، في مسعى البلاد لتخليد الذكرى السنوية الأولى للنصر على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في عهد الرئيس ريموند بوين كاري، في حين تضادها رواية أخرى تقول إن "فكرة دقيقة الصمت من أجل الحداد جاءت باقتراح من الصحفي الأسترالي إدوارد جورج هوني في خطاب وجهه لعدة صحف عالمية في مايو من العام 1919 طالبهم بها بالصمت من أجل ضحايا الحرب العالمية الأولى. وكان إدوارد يفكر في الصمت لمدة خمس دقائق، لكن ذلك اعتبر وقتا طويلا جدا، فتم تبني الفكرة لكن بالصمت لمدة دقيقة.



والمعروف أن دقيقة الصمت اكتسبت صفة رسمية مع الذكرى السنوية الأولى لتوقيع معاهدة فرساي وهزيمة ألمانيا، وذلك عندما بعث صحفي أسترالي رسالة إلى الملك البريطاني جورج الخامس، يطلب فيها تخفيف الطابع الاحتفالي للمراسيم المخلدة، وإبراز الجانب المأوساي في الحرب والويلات التي خلفتها. وقد تجاوب الملك مع الرسالة إيجابا، فأصدر في السابع من نوفمبر 1919 مرسوما بالوقوف دقيقة صمت في كل أنحاء البلاد في مستهل الاحتفالات التي تقام كل سنة في 11 نوفمبر، أي في نفس اليوم الذي وُقعت فيه معاهدة فرساي.

وخلال لحظة الصمت، يمكن للمشاركين عادة إحناء رؤوسهم، وإزالة القبعات، والامتناع عن التحدث لمدة. ويكون الشخص الذي يتولى رئاسة الاجتماع أو يترأسه مسؤولا عن إعلان وتوقيت فترة الصمت.

ومع ما سبق ذكره، إلا أن هناك من يرى أن تاريخ دقيقة الصمت يعود إلى ما قبل العام 1919، وتحديدا في 1912، إذ سجلت أول حالة صمت رسمية مكرسة لوفاة شخص في البرتغال في 13 فبراير 1912، عندما خصص مجلس الشيوخ البرتغالي 10 دقائق صمت. وقد سجلت لحظة الصمت هذه في سجلات مجلس الشيوخ في ذلك اليوم.

وفي أمريكا، شهد العام 1962 جدلا حول اعتماد دقيقة الصمت، حينما قضت المحكمة العليا الأمريكية بعدم دستورية قيام أي مدرسة أو منشأة أو تجمع بالدعوة إلى لحظة صمت لتعارضه مع التعديل الأول للدستور الأمريكي والحقوق المدنية والدينية. وفي سنة 1985 حكمت بعدم دستورية قانون لحظة الصمت في ولاية ألاباما.



الجدل لم يتوقف على الجانب الغربي من العالم، بل في العالم العربي والدول الإسلامية لا تفتأ الآراء تتناقض وتتضارب بين من يدعو إلى الوقوف دقيقة صمت عند وقوع وفيات لحوادث أو هجمات إرهابية، وبين من لا يعتد بها جملة وتفصيلا، بل ويحرمها ويدعو إلى هجر "البدعة" لأنها ليست من الشريعة الإسلامية، بحجة أن المسلم يجب عليه أن يتمسك بدينه ولا يؤثر فيه أي شيء، بل يجب أن يؤثر هو في الآخرين، وتكون له شخصية تميزه عن غيره.

كما أن الجدل حول دقيقة الصمت ارتبط أيضا في عالم الكرة، إذ تم كسر قاعدة الصمت في دقائق الحداد من قبل الجمهور في أكثر من مناسبة كما فعل الجمهور التركي خلال المباراة الودية التي جمعت المنتخب التركي بضيفه اليوناني في في نوفمبر عام 2015، إذ رفض الوقوف دقيقة صمت على ضحايا باريس، ورددوا مكبرين "الله أكبر" خلال تلك الدقيقة.



وفي الشهر نفسه، شهد استاد أفيفا في إيرلندا رفض بعض جماهير جمهورية البوسنة والهرسك خلال مباراة منتخبهم مع إيرلندا أيضا الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجوم باريس، وأثناء الوقوف دقيقة صمت قام بعض الجمهور البوسني بإطلاق صافرات الاستهجان، والصراخ "فلسطين.. فلسطين".

أوجه الجدل عديدة، فكما سبق أن دقيقة الصمت شهدت جدلا حول بدايتها، وحول مشروعيتها وحول إقرارها دستوريا وحول التغاضي عنها وهجرها، إلا أن الحزن بحد ذاته يلزم أي شخص فجع بحادثة أن لا ينبس ببنت شفة، حيث تعجز الكلمات عن وصف ألم الفقد في وقت يكون الشخص هو المشرع لصمته تعبيرا عن حزنه، سواء لدقيقة، أو يوم أو أسبوع، وربما للأبد.