أسماء بوزيان
أسماء بوزيان
-A +A
أسماء بوزيان (باريس) asmek2@
سنوات طويلة غازل بعض كتاب وأدباء عرب الجوائز العربية، ونفر بعضهم من تلك الجوائز، ولا يختلف المشهد الأدبي العربي عن نظيره الغربي في هذه النقطة الأخيرة بالذات. فمثلما رفض أدباء الجوائز في الغرب، تزلف عرب لها وقدموا نصوصهم قرابين لتلك الجوائز. وسواء نالوها أم لم ينالوها، تظل بالنسبة لهم مقصدا شرعيا لا يحيدون عنه.

هذا المشهد الذي قفز على بعض المسلمات الزمانية والمكانية، صار مستفزا في الأشهر الأخيرة. فبعد موسم أدبي نال فيه من نال من كُتاب، جوائزَ على غرار البوكر العربية أو كتارا للرواية أو جائزة الشيخ زايد للكتاب أو بعض الجوائز المحلية، مثل جائزة أيقونة الأدب الجزائري أسيا جبار، عاد بعضهم في سباق زمني محموم للحديث عن التحكيم، وذهب آخرون للتشكيك في مستوى روايات زملائهم الفائزة، وجنح ثالثهم لسحب البساط من تحت أقدام الكتاب الشباب واتهامهم بالشعبوية وترهل نصوصهم، وطرق رابعهم بوابة التحكيم، براءة للذمة.


مشهد اكتسحه أيضا طوفان «الأبوية» التي لا تقبل بأن يرتدي الابن قباعة «الكابتن» ليتولى قيادة الباخرة التي قد تغير مساراتها وتبتكر نصوصا وأفكارا تؤثث لمنعطفات جديدة في النصوص الأدبية بكل أجناسها. ولعل «خرجة» صاحب «الحلزون العنيد» من قوقعته لقصف بعض الكتاب الشباب كسعيد خطيبي وكمال داود، والتشكيك في نصوص أمين الزاوي وبوعلام صنصال، حد القول لا يتقنون اللغة التي يكتبون بها أو التشكيك في إبداعاتهم هي صورة جيل لا يقبل بغيره على الساحة الأدبية ولا يعترف بنصوص جددت حركة الأدب وطمست معالم «الأبوية» الطاغية لجيل أبدع في وقته، ولكنه تجاوزه الزمن مع الزمن، وصار يكرر النصوص نفسها، ويجتر المواضيع نفسها عند كل إصدار جديد لهم.

هل القارئ العربي محكوم عليه باجترار، بدوره، أسماء لا تتقن إلا شعار «أنا وبعدي الطوفان»؟...

إذ نتحدث عن هذه «المزالق» التي أصبحت تؤثث يومياتنا في العالم العربي، سواء بالنسبة للنص الفكري أو الأدبي، فذلك لأننا نعلم أن في العالم كله يحاكم أي نص عن قيمته الجمالية والإبداعية المتجددة، إلا في العالم العربي، فالنص يحاكم بالعمر البيولوجي لكاتبه، أو بالفكر الجماعي الذي لا يتجاوز حدود التفكير القومي، الذي نعتقد أنه كان ينفع في فترة من فترات صراع تاريخي معين، تجاوزه الزمن لنمط صراع مغاير. وإلا كيف نفسر أيضا قول رئيسة لجنة تحكيم البوكر العربية عندما كتبت على صفحتها بالفيسبوك: «أبناء الجيل الجديدِ من الكتاب يكتبون أكثر بكثير مما يقرأون بدليل أن كتاباتِهم لا تشير إلى نضجٍ وتخمرٍ في المعرفة... بل تشير إلى اندفاعٍ شبه غريزيٍ للتعبير عن النفس في مجتمع لا يشجع على التعبير الفردي والجماعي، السياسي والاجتماعي والجنسي (...).».

لا يمكن أن نحاسب الشباب اليوم عن خوضهم في مواضيع تشكل الراهن وفق أجناس معينة وتمظهرات جديدة، ربما دخيلة على الأدب الكلاسيكي أو الأدب «الأبوي» الذي يكرسه جيل الستينات والخمسينات وقبله الذي اختار لغة التمجيد لخيار تاريخي، مجبر على المضي فيه وفق السياقات الزمانية والصراعات والتكتلات. فالتاريخ كان سيد الموقف، وكان راهنا يفرض نفسه على نصوص كتاب تلك الفترة، «استأثروا» بالفكر الجماعي من أجل نصرة قضية من القضايا أو ثورة من الثورات. ولكن ذلك لا ينطبق على جيل الكتاب الشباب الذي لا يخضع للسياقات الزمكانية والتكتلات الفكرية، بقدر ما يوغل في التجديد الذي أصبحت الفردانية، تشكل أحد عوامله ضمن سياقات اجتماعية جديدة متسارعة، تدفعهم لمجانبة السياق ذاته الذي خاض فيه أسلافهم من الكتاب.

ولذلك لا يمكن محاسبة نصوص الروائيين الشباب الجدد الذين يكتبون عن تجربة جديدة، لم يعرفها ولن يفهمها جيل «متعصب» لمرجعية قومية ثورية، باتت لا تستوعب مرحلة الفردانية في الإبداع المعاصر.

لا يمكن محاكمة نصوص شبابية دون النظر لقيمتها الفنية التي تجدد الإبداع وتؤسس للتجديد. فعندما فاز الكاتب الجمايكي مارلون جيمس بجائزة مان بوكر البريطانية عن روايته التي تدور أحداثها عن قصة متخيلة عن اغتيال مغني الريغي الجامايكي الشهير بوب مارلي في سبعينات القرن الماضي، لم يقل المحكمون إن الكاتب شاب ويتحدث عن شاب، ولن يأتي بالجديد، ولا يستحق الفوز أمام عمالقة شاركوا في الجائزة، وإن نصه الملحمي، يغص بالمفاجآت، والأحداث العنيفة والكلمات البذيئة التي تمس المجتمعات الراقية والمحافظة، بل وصف مايكل وود رئيس لجنة التحكيم رواية «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» بأنها الأكثر روايات إثارة كونها تحمل صورة عن الشباب ونظرتهم للواقع.

لماذا لم تسأل سيدة لجنة تحكيم البوكر العربية نفسها عن تلك الأسماء الشابة التي يلمع صيتها خارج حدود العالم العربي عندما تترجم رواياتهم، وتجد قارئا أجنبيا يهتم بها ونقدا يشرحها وحكاما يستوعبون أحداثها، يتجاوزن المحرمات والمحظورات عندما يتعلق الأمر بسرد وتشريح ظواهر موجودة في المجتمعات؟

هل نحن مجبرون اليوم على الانتظار قرنا من الزمن ليخرج لنا نوبلي جديد كنجيب محفوظ، يفلت من قبضة «الأبوية» والقمع الأدبي في العالم العربي؟ ولماذا لا نستوعب النصوص الشبابية وفق أحداثها ونزقها، التي تُوثّب لأدب يساير الحركة العالمية؟

إتالو كالفينو كان يقول: «النص، ذاك الذي يتمكن من التخلص من قبضة القيود، ويستوعب الظواهر كلها، حتى الشاذ منها... فالنص الناجح هو الذي لا يقف عند قول ما يجب أن يقال».

ما لم يستوعبه بعض الكتاب من جيل الأوائل أن التجديد لا خيار عنه، وفتح الأفق نحو النصوص الجديدة هو حتمية زمانية لا يمكن الاستغناء عنها، ولن يكون ذلك إلا بإصلاح في منظومة الجوائز العربية.

الجوائز العربية التي تحيد في نظامها الداخلي عن معايير معترف بها في الجوائز العالمية، تثير الكثير من الريبة والشك في مصداقيتها. هذه الجوائز العربية التي لا تغير إدارتها كل سنة، عكس الجوائز العالمية، حيث إدارتها ثابتة ولجان القراءة متغيرة. ففي العالم العربي كل شيء ممكن، كأن يتحول رئيس لجنة التحكيم إلى مرشح للجائزة، وخير مثال طالب الرفاعي الذي كان رئيسا للجنة تحكيم البوكر العربية وتحول بعد سنوات إلى مرشح لها ولولا انسحابه منها بعد «الخطأ» التقني لربما توج بها في تلك السنة.

عندما استقالت أستاذة الأدب والنقد بجامعة القاهرة شرين أبو النجا من لجنة تحكيم البوكر في2009 بعد صدور القائمة القصيرة، أثيرت الكثير من التساؤلات عن البوكر العربية. التي لم تتجاوز عقدة الشخصنة والقُطرية. فحضور أسماء وغياب أخرى وحضور بلدان وغياب أخرى والحضور المتكرر لدور نشر وغياب أخرى، يطرح الكثير من الاستفهامات، ناهيك عن النصوص المتوجة، كأنها تكتب تحت الطلب من جيل دون آخر.

في 2011، منحت الجائزة مناصفة للسعودية رجاء عالم عن روايتها «طوق الحمام» وللمغربي محمد الأشعري عن روايته «القوس والفراشة»، وكان الإصدران للدار نفسها وهي المركز الثقافي العربي (دار نشر لبنانية -مغربية)... ووصل وقتها مغربيان للقائمة القصيرة وهما محمد الأشعري الذي فاز رفقة رجاء عالم وبن سالم حميش بروايته «معذبتي»، وضمت يومها لجنة التحكيم المغربي سعيد يقطين.

لا يجب أن ننفي أن نصوص الزمن «الجميل» مازالت تصنع رونقها كلما استعدنا قراءاتها، لكن هذا لا يعني أن نلغي كل ما جاء بعدها. فكل عمل أدبي يولد من رحم الاختلاف قبل أن يتم دمجه مع الفكر الجمعي. فالطليعة هو إعادة اكتشاف نصوص رضعت من حليب أسلافها وطرحتها في ثوب جديد وبروح متجددة، مثلما يقول الملحن بيير بوليز: «كي نشنف أذان جيل بعزف على آلات عصر غير عصره، علينا أن نكيف لحننا على وقع الأذن الصاغية لنا».

لذلك من الأهمية أن نجدد النظر للنصوص الأدبية بعيون الوقت والعصر. فالنصوص الشبابية التي شربت من عمق ما قرأت لا يمكننا أن نشكك في نضجها وحكمتها وإلا ما استطاعت أن تنافس نصوصا عالمية وتفوز عليها.