-A +A
محمد الساعد
في السنوات الأخيرة من عمر الدولة الأموية وبالذات بعد وفاة عاشر أمرائها هشام بن عبدالملك سنة 125هـ، تعاقب على حكمها وهي في النزع الأخير أربعة خلفاء، تميزت فترتهم بضعف شديد وتغول «للعجم» وانهيار اقتصادي وصراعات اجتماعية كبيرة وانقسام حاد بين أجنحة بيت الحكم، لقد كان ابتعاد الحكام عن الشعوب التي حكموها، وانصرافهم للمؤامرات هو أكثر المسببات التي قضت عليهم آخر الأمر.

عاشت الدولة الأموية في الفترة من سنة 41 إلى 132هـ، وتأسست كما يعلم الجميع على يد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، تميز الأمويون بفهم متقدم للسياسة، واستطاعوا ببراعة إدارة الأعراق والديانات المتعددة بداية حكمهم بالعدل والإنصاف، قوامها مزج متميز بين السياسة والاقتصاد، فتحولت الدولة الإسلامية الأولى إلى دولة مؤسسات كاملة، واستطاعت هضم مساحات شاسعة وشعوب وأعراق مختلفة داخل جسم الدولة، إلا أنها استسلمت في نهاية فترتها لتدخلات خارجية، وسمحت بتمادي نفوذ العجم على مفاصل الدولة خاصة في خرسان وفارس.


كادت الدولة الإسلامية أن تضيع بيضتها لولا تدخل الأمير عبدالله بن علي بن عبدالله بن العباس، الشخصية الاستثنائية الذي أعاد مسار الإمبراطورية الإسلامية إلى وضعها الصحيح، بعدما كادت تنهار سريعا لصالح الفوضى والصراعات، خاصة مع انقسام اجتماعي بدا واضحا بين المكونات السكانية وداخل المجتمعات الإسلامية بكل عناصرها.

يعد الأمير عبدالله بن علي المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية «الثانية»، التي بدأت ملامحها بالبروز حتى قبيل سقوط الدولة الأموية، وهي التي عرفت فيما بعد بالدولة العباسية.

كان الأمير عبدالله قائدا استثنائيا فذا، امتاز بالحكمة والشجاعة والبطولة، حتى أن الحافظ الذهبي وصفه في سير أعلام النبلاء بأنه من رجالات «العالم ودهاتهم»، هذا الوصف النادر لا يمكن أن يطلق هكذا دون أن يكون لحامله من المواصفات الشخصية الفريدة والقيادة والسياسة ما يجعله قادرا على تحمل مسؤولية استثنائية تنتظره في قابل الأيام، وقدرته على توظيفها لصالح مشروع الدولة الجديد.

استطاع الأمير عبدالله بن علي أن يجمع أمته المتفرقة المشتتة الخائفة، بسبب تصرفات الحكام السابقين الذين ضيعوا هيبتها بسبب غرور المال وغباء التصرف السياسي، ويؤسس الدولة الجديدة، التي اشتهرت فيما بعد بالعباسية.

لعلها من نبوءات التاريخ المفاجئة بكل ما فيها من تفاصيل، ومن المصادفات العجيبة التي لا تتكرر إلا مرة كل ألف عام، حاملة رجالا استثنائيين لمواقع القيادة والقرار، رجالا ملهمين وتاريخيين، تتطابق أسماؤهم وأفعالهم، يبنون مستقبل شعوبهم، قادرين على قراءة المشهد السياسي جيدا، منطلقين في اللحظة المناسبة لمصلحة أوطانهم.

هؤلاء الرجال الفريدون، ليسوا كغيرهم ممن باعوا أوطانهم للمؤامرات والتنظيمات الإرهابية العابرة، وسلموا مقاليد حكمهم للغرباء الباحثين عن المال، ولا الذين استقدموا المرتزقة واستسلموا في نهاية الأمر لهم، وهم بالتأكيد ليسوا من خونة العشيرة وأبناء العمومة، ولا يكرسون بلادهم لتكون جسرا يعبر عليه أعداء أمتهم من الأعاجم ذوي الأطماع التي لا تزول.

لقد شهد التاريخ القديم كما الحديث، انهيار أنظمة وحكومات وأمم عدة في تاريخنا العربي، لعل أبرزهم اثنان ممن حملوا على عاتقهم فشلا ذريعا، ظلت تبعاته تطاردهم لليوم حتى وهم في قبورهم، هما مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية في دمشق، الذي أطلق عليه المؤرخون وصفا صعبا هو «مروان الحمار»، الاخر هو أبو عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة، الذي قالت له أمه وهو يلقي نظرته الأخيرة على غرناطة آخر ممالك الأندلس بعدما استسلم وهزم، «ابكِ كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال».