المحكمة الجعفرية
المحكمة الجعفرية




محمد الجيراني
محمد الجيراني
-A +A
عيسى الشاماني (الرياض)I_ALSHAMANI@
مُلثّمون من ميليشيات مُتطرّفة يحملون رايات الدمّ تسرّبوا من أزقّة عشوائيّة ليُحاصروا منزل ابن الحوزات العلميّة، القاضي الشيخ محمد الجيراني، تمادى الغوغاء ليُشعلوا النار في منزله بوجود أسرته، وتتسببت الحادثة الإجراميّة في إصابة اثنين من أبنائه بحروق واختناق الآخرين.. ثمّ أحرقوا مزرعته ثم عادوا في وقتٍ آخر لإطلاق الرصاص على منزله، واختطافه ضمن مخطط عصابات إرهابية، وقبله عانى القاضي الشيخ علي اللاجامي من اعتداءات ترهيب وعنف.. لماذا؟!

التقرير الذي أعدته حملة السكينة لمكافحة الإرهاب، وتخص به «عكاظ» تتبعت هذه القضية التي أثارت الرأي العام قبل فترة، ولاتزال، إذ تؤكد السكينة أن الإرهاب وما يتعلّق به -بغض النظر عن مذهب فاعله أحد أهدافها، سعيا لتمتين رؤى نبذ ومحاربة الإرهاب والتطرف-، وأوردت في التقرير وثائق ومكاتبات ومُداولات بين علماء وقضاة ومؤرّخي القطيف، وتشير أيضا إلى مرتبة القضاء في المذهب الجعفري التي تعتبر من أعلى المراتب العلميّة.


ويعتبر مركز القضاء في المنطقة محور قوّة علمية ومجتمعيّة بارتباطها بولاة الأمر والدولة منذ تأسيس السعودية الحديثة، إضافة إلى مواقفهم الواضحة ضد الإرهاب وترويع المجتمع وتهديد مصالح المواطنين والمقيمين والاعتداء على رجال الأمن وبث الفوضى في مجتمع آمِن، كما أن رفض القضاة الولاء لأي دولة خارجية أو جماعة منحرفة إرهابيّة، ووقوفهم ضد خُطب وخطابات التحريض والتأجيج ساهم بشكل كبير في الاعتداءات السافرة بحقهم.

ويسعى الإرهابيون أيضا من خلال استهداف القضاة، إلى تعطيل مصالح المواطنين وتحقيق هدف «الفوضى والعبث»، وترويع وإرهاب كل من يُعلِن الولاء والبيعة للدولة ونبذ العنف والفوضى، كما أنهم يسعون إلى هدم أي سُلطة دينية أو أمنيّة أو مدنيّة في المنطقة، حيث يؤمن الإرهابيون أنه لن يتحقق مُبتغاهم العبثي وسط قبضة أمنيّة ونُظُم إدارية قوية وواضحة.

ومن أهم أهدافهم في استهداف القضاة هو محاولة إيقاف أي مسار للإصلاح والتنمية والتطوير، فالإرهابيون يعتاشون على تكريس المظلوميّة المُفتعلة؛ لذلك وقفوا ضد تطوير حي المسورة العشوائي، وغيرها من عمليات التطوير والتنمية الحسيّة والمعنويّة.

محاولات لصنع الفوضى والعبث

وفقا للسّرد السابق ولمجموع الوثائق والمُكاتبات والحقائق اتضّح عِناية الدولة بمرفق القضاء الخاص بالمذهب الجعفري، وكان ارتباط علماء وقضاة الشيعة واضحا بولاة الأمر والأمراء والأجهزة الإدارية، وهذا الارتباط شكّل حفظا للحقوق واستتبابا للأمن.

لكن عندما بدأت موجات ودعوات العنف والإرهاب من عصابات وميليشيات خَرَجَت على أصول المذهب الشيعي، كان لابد أن يستفزّوا ويُرهبوا رأس الهرم في القضاء والسلطة الدينيّة، وهي ذات الصورة التي حدثت في المذهب السّني: الاعتداء على الرموز والمرجعيّات، لأن الهدف هو «الترهيب» وبث الرعب وصناعة الفوضى والعبث. وتوالت بيانات وتحذيرات علماء وأعيان الشيعة حيال الممارسات الإرهابيّة التي طالت رجال الأمن والمواطنين وحتى علماء الشيعة، والتي تؤول إلى الإفساد، في مقابل مِهنيّة عالية من الأمن الذي يتعامل مع العنف والإرهاب دون النظر إلى مذهب أو طائفة فاعِلِه.

أول محكمة مشتركة للسنة والشيعة برئاسة الخنيزي

بدأت المرحلة الاولى مع بداية الدولة السعودية الحديثة في المنطقة، حينما تأسست أول محكمة مشتركة للسنة والشيعة وعلى رأسها الشيخ علي أبو عبدالكريم الخنيزي، وحرصت الدولة السعودية على حفظ النظام وإشراك جميع طوائف المجتمع، ووصل الخنيزي إلى مرتبة «حُجّة» في تدرّجات العلماء الشيعة.

وفي تاريخ ذلك يقول العالم والمؤرّخ الحاج منصور بن حسن بن نصر الله من مؤرّخي المنطقة: «إنه في سنة 1331هـ أصدر المغفور له الملك عبدالعزيز أمراً يقضي بتعيين الشيخ علي أبو عبدالكريم قاضياً رسمياً للقطيف، فكان أول القضاة الذي تحال له الأمور وسائر المنازعات وبشكل رسمي ملزم للأطراف ويأمر الجهات التنفيذية بإنفاذه، ولم يكن يقضي بشكل رسمي أحد سواه، والشيخ أبو عبدالكريم الخنيزي -الذي كان يسمى الشيخ العود كان يقضي بين الناس قاطبة سنة وشيعة». - المصدر مجلة الواحة العدد ٢١، ٢٠٠٦ م -.

اما المرحلة الثانية فقد بدأت بتأسيس أول محكمة سنية عام 1344هـ وعين فيها السيد إبراهيم بن صالح السادة شافعي المذهب وأحد علماء دارين، مع الإبقاء على القضاء الجعفري. وفي الثالثة تم فصل المحكمتين لتتحولا إلى جهتين مستقلتين عام 1362هـ، وذلك مراعاة لكثرة الأعداد ومُتطلّبات واقع وظروف المجتمع الذي تسارع في النمو والتنمية، تولّى قضاء المحكمة الجعفريّة حينها الشيخ «علي أبو حسن الخنيزي» وكان يُسمّى الشيخ «الصغير» تمييزا له عن الشيخ «العود» وكانت فترته قصيرة، تولّى بعده الشيخ محمد علي الخنيزي، وحصل خلاف في زمن قضائه مع علماء شيعة، ورفع الأهالي شِكايات، مما استدعى التحرّك في تنظيم أدق للقضاء في المنطقة وفق ما يحفظ الحقوق وما أجمع عليه كبار علماء المنطقة، وقد رشّح أغلب العلماء والأعيان الشيخ «علي الجشّي» سنة ١٣٦٧هـ، لكن الوضع القضائي لم يستقر لوجود ترسّبات، ورفع العلماء والأهالي -من جميع الأطراف- شِكايات لولاة الأمر أغلبها تخصّ الأوقاف المتنازع عليها، فكانت تمهيدا للمرحلتين الرابعة والخامسة اللتين هدفتا إلى إجراءات أكثر تنظيما إداريّا مما يضمن سلامة الأحكام وصحّة المسار وحفظ حقوق المتقاضين.

المرحلة السادسة بدأت بتحديد صلاحيات المحكمة الجعفرية لتقوم بدور الأوقاف والمواريث والأحوال الشخصية، ولحلّ قضايا ومشكلات «الأوقاف» التي تسببت بمشاحنات وشكايات داخل المجتمع. وفي المرحلة الخامسة تم ترسيم القضاء الجعفري في عهد الملك فهد عام 1404هـ وإلحاقها بصفة رسمية بوزارة العدل، مما يُعدّ دعما إداريا للقضاء الجعفري والمحكمة الخاصّة، وأحدث ذلك نقلة لاقت استحسانا بين علماء المذهب والأهالي، فدخلت الأقضية ضمن التوثيق الرسمي والفصل في المنازعات والصكوك المحكمة وغيرها من متطلبات تطوير مرفق القضاء وصيانة حقوق المتقاضين.

تاريخ القضاء المؤسّسي بالقطيف

راعَت السعودية تسيير القضاء وفق منظومة شاملة تحفظ الحقوق وتضبط العدل مُراعية الاختلافات المذهبيّة وخصوصيّة بعض المذاهب في أبواب الأحوال الشخصيّة والمواريث والأوقاف خاصّة، وظهر ذلك في تثبيت علماء وقضاة كل بلدة ومدينة تنضمّ للدولة السعودية الحديثة، وتنظيم عملهم القضائي تحت إطار المنظومة العدليّة الكُبرى، وضمن مراسلات علماء وقضاة القطيف الشيعة ما يؤكّد المنهج السعودي المعتدل، فقد بعَثَ أبرز علماء القطيف عام ١٩٧٥ برقية إلى ولي العهد آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز، وفيها «لقد دخل مؤسس هذه الدولة والدكم جلالة الملك عبدالعزيز البلاد بترحيب من أهلها، وهو يعرف أنهم شيعة، وأعطى لهم ضمان الحرية المذهبية» وكانت البرقيّة تتضمن مقترحات حول تطوير مرفق القضاء، وممن وقّع البرقيّة: العلماء والمشايخ والقضاة (عبدالحميد الخطّي، سعيد الشيخ علي أبو المكارم -قاضي المحكمة حينها-، والسيدان حسن وحسين العوامي والوجيه عبدالله بن حسين المطوع)، وفيها توضيح لحقيقة تاريخيّة مهمة وهي أن ضمّ منطقة القطيف للحكم السعودي جاء بناء على رغبة وتوافق من علماء القطيف والأعيان والأهالي، فكان ضمّها سلميّا.

بدأ تاريخ القضاء بالقطيف منذ تأسيس السعودية الحديثة، حيث ينقسم الى «5» مراحل - وفقا لمحاضرة ألقاها الشيخ القاضي محمد بن أحمد آل عبيدان في (٢١ نوفمبر ٢٠٠٦ م) بمنتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف، بعنوان «القضاء الجعفري ورؤى المستقبل» والقاضي العبيدان من علماء الحوزات العلميّة الشيعية.

الجيراني يندد بالإرهابيين

تعرض القاضي محمد الجيراني العالم الشيعي الذي تم تعيينه بمحكمة القطيف لعدد من محاولات الاعتداء التي طالت أملاكه وأسرته منذ (٢٠١١)، حيث أشعل إرهابيون النار في أجزاء من منزله بشكل متعمد ولاذوا بالفرار، ما خلف أضرارا مادية بالمنزل وإصابة اثنين من أبنائه بجروح وحروق وحالات اختناق، وتعرضت قبلها مزرعته الخاصة بحي المحدود في جزيرة تاروت إلى حرق متعمد، وتخريب أدى إلى خسائر مادية كبيرة بالمزرعة، في حين تعرض منزله وسيارته لإطلاق نار بعد توليه منصب القضاء في المحكمة بفترة قصيرة، إلى أن تمّ اختطافه بفعل عصابات إرهابيّة تستهدف الفوضى والرعب والشغب في ١٣ ديسمبر ٢٠١٦، وعلى الفور تحرّكت الجهات الأمنيّة التي نجحت في القبض على عدد من المتورّطين، كما أصدرت أمانة هيئة كبار العلماء في السعودية بيانا استنكاريّا شديدا يُندد بجرائم الإرهابيين ضد العالم الشيعي القاضي الجيراني، وفي مُقابلة مُسجّلة معه ( ٧ اكتوبر ٢٠١٦) أوجز الشيخ الجيراني المشهد بقوله عن الإرهابيين المُعتدين: يريدون «أن يجعلوا بلادنا بلاد أشباح، بالاعتداء على الأمن والمواطنين ومصالح الناس»

وشكلت حوادث الاعتداء على قضاة القطيف ظاهرة متكررة، حيث سبقت حوادث الاعتداء على القاضي الجيراني، حوادث سابقة استهدفت القاضي السابق الشيخ وجيه الأوجامي قبل تنحيه عن منصب القضاء، الذي تعرض لحادثتي حرق استهدفتا مزرعته ببلدة الأوجام لمرتين متتاليتين، على إثر بيانات وتصريحات له تُندد وتحذّر من مسلك الفوضويين ومثيري الفتنة والعبث.

هيئة تدقيق في محكمتي الأحساء والقطيف

يشمل مجمع الدوائر الشرعية بالقطيف كتابتي العدل الأولى والثانية والمحكمة العامة والمحكمة الجزائية ومحكمة الأوقاف والمواريث ومبنى هيئة التدقيق، ويخدم جميع أهالي المنطقة. وإلى جانب قضاة المحكمة تأسست في السنوات الأخيرة ما عرفت بهيئة التدقيق لمحكمتي القطيف والأحساء وهي بمثابة هيئة تمييز ومقرها القطيف برئاسة القاضي الشيخ عبدالله البيابي وعضوية: القاضي الشيخ علي بن مدن آل محسن (أبريل 2007)، من علماء الشيعة، وهو خرّيج كلية الطب، لكنه التحق بالمدارس الشرعيّة دَرَس ودَرّس فيها، ويُعتبر من أبرز علماء المذهب الشيعي ومرجعيّة عامّة، وحصل على وكالات من: علي السيستاني، ومحمد الفياض، ومحمد الروحاني، ومحمد الحكيم، وغيرهم، واشتهر بالتأليف والتعليم. القاضي الشيخ غالب الحماد (يوليو 2006)، وهو من علماء الشيعة الناشطين في العمل المجتمعي.