-A +A
هاني الظاهري
في شتى بقاع هذا العالم يلعب المال السياسي أدواراً مهمة وربما أساسية في صناعة السياسات وتحسين السمعة الدولية، هذا أمر مفروغ منه تاريخيا ولا يمكن تغييره أو صناعة قواعد جديدة للعبة قديمة قدم التاريخ نفسه، ولذلك تصالح الغرب مع الظاهرة وعمدوا إلى تقنينها بشكل يخفف من تأثيرها، فسمحت القوانين للسياسيين المرشحين للانتخابات بجمع التبرعات من الناخبين والداعمين لتمويل حملاتهم والتسويق لبرامجهم، كما سمحت لمراكز الأبحاث والمؤسسات الأهلية بتلقي الدعم والهبات المالية لخدمة مشاريعها على أن يكون ذلك مسجلاً بشكل رسمي وتُدفع عنه الضرائب المستحقة، لكن أساتذة اللعبة السياسية صنعوا أيضا لوبيات الضغط في السياسة والإعلام والاقتصاد وكافة المجالات للالتفاف على القوانين بل وصناعة القوانين الجديدة وكما قيل «يستفيد من القانون من يجيد العزف عليه».

في العالم العربي الأمر مختلف تماما، فالمال السياسي ملطخ بالدماء ويلعب في فضاءات فوضوية تماما ولطالما كان يصب تحت جنح الظلام في صناديق بائعي الأوهام السياسية الفارغة للسلطات الحالمة بأدوار تفوق حجمها التاريخي والجغرافي، ولم ينتج عنه في أغلب الأحوال إلا الدمار والانزلاق في المهالك، وهذا بالضبط ما حدث مع حكومة قطر طوال العقدين الماضيين، إذ سخرت منذ تسعينات القرن الماضي جل مقدراتها لمشروع ساذج هدفه بناء امبراطورية وهمية، بعد أن خدعها به بعض حواة المشهد السياسي في المنطقة من سياسيين مرتزقة وإعلاميين باحثين عن الثروات ورجال دين حزبيين يبيعون الشرعية للمانح، ويغرقونه برسائل التطمين فيما هو يغرق فعليا في هوة سحيقة لا يمكنه اكتشاف حقيقتها إلا بعد فوات الأوان.


المال السياسي ليس سيئاً بالمطلق، إذ يبقى وسيلة جيدة وأحيانا ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها لخدمة الساسة العقلاء والأنظمة الحكيمة في بناء مشاريع سياسية طموحة تصب في مصلحة الدول وتدعم ما يسهم في تنمية مقدراتها وخدمة شعوبها، فقط المال السياسي بيد المجنون هو الذي يتحول إلى قنبلة نووية مدمرة لأن الساسة المجانين بكل بساطة لا يجيدون استخدامه ولا يمكنهم في الوقت ذاته الصمود أمام بائعي الأوهام السياسية البراقة.

التجربة القطرية في تبديد المال السياسي على الأوهام وما نتج عنها من مأسسة التحريض والطائفية وقتل الأبرياء وتدمير الحياة المدنية في مناطق مختلفة من العالم مع تلميع الأحزاب الإجرامية الموالية للدوحة باسم الثورات يجب أن تُدرس بعناية كأغبى تجربة لتوظيف المال السياسي على مستوى العالم، فهي وإن كانت امتدادا لمدرسة القذافي السياسية إلا أنها تجاوزت كل ما سبقها من تجارب في المنطقة بجنون منقطع النظير.

سيتعلم الساسة القطريون الدرس بعد أن يفقدوا كل شيء، وهذا لا يهمنا على الإطلاق لأن طريق الإصلاح مستحيل تماما في الحالة القطرية، ما يهمنا هو أن ندرك أن باعة الأوهام الذين استفادوا من الجنون القطري، سيعودون غدا بوجوه مختلفة وشعارات أخرى بحثاً عن المال السياسي الساخن من حولنا، بالرغم من أن المنطقة ليست هي ذاتها التي كانت قبل عام 2011، والأدوات المستخدمة لحلب المال السياسي ليست ذات الأدوات القديمة.. لكنهم لن يستسلموا أبدا.