-A +A
نجيب يماني
أعتقد بأنّ أزمة العقل العربي قديما وحديثا كامنة في التسيّج والانحياز الصمدي إلى مخرجاته الفكرية، والتعاطي مع الآخر وفق ذلك على كافة المستويات، بما فيها العقدي، ما يزيح من معاقد الحوار عنده مفردات: القبول، والمناقشة، والطرح، والتلاقح.. وغيرها مما هو متاح في بساط الحرية والديموقراطية، والشورى، وتستوطن في مقابلها مفردات: النفي، والإقصاء، والتبديع، والتفسيق، والتكفير، وغيرها من الأوصاف المستنسلة من قاموس القهر والإذلال، ومحاولة تدجين الآخر بأي صورة من صور التدجين، في افتراق واضح لمنهج الإسلام القائم على توفير كل سبل الأمان والحرية ومطلق الخيار للإنسان؛ «لكم دينكم ولي دين».

إن مظاهر التطرف والغلو في العقل العربي تبقى حاضرة في كل أوجه نشاطه؛ الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والديني، وإن كانت على المستوى الديني أكثر بروزا وظهورا لما انطوى عليها من مآس كثيرة، تشابهت في إفرازاتها عبر التاريخ بحقبه المختلفة، بشكل يدعو إلى العجب والسخرية، ويكاد يجعل من مقولة «التاريخ يعيد نفسه»، حقيقة ثابتة، وليست مجرد ملاحظة من جملة الملاحظات.


ولو عقدنا مقارنة عابرة بين جماعة «الحشاشين» في الزمن الماضي ومثيلتها «داعش» في زمننا الحاضر، فسنجد أن المشابهة بينهما قائمة بشكل متطابق؛ «حذوك النعل بالنعل»، فجماعة «الحشاشين»، ظهرت في الفترة ما بين القرنين الخامس والسابع الهجريين، منفصلة عن الدولة الفاطمية، متخذة من سوريا وبلاد فارس معقلاً لها، داعية إلى إمامة «نزار المصطفى لدين الله» ومن جاء مِن نسله، بحجج أحقيته بإمامة المسلمين، ولم يكن لها من سبيل إلى تحقيق هذه الغاية إلا العنف في أفظع صوره، والموت بكل صوره، فنشرت الرعب، وجعلت الاغتيالات طريقها لإزاحة كل من يقف أمامها، والأعجب من ذلك أنها كانت تتخذ أسلوبا غاية في «الطرافة» إن نظرت إليه بعين «الكوميديا السوداء»، فبحسب ما ذكره الرحالة الإيطالي ماركو بولو، من أساطير في قصة شاعت باسم «أسطورة الفردوس»، جاء وصفه لـ«قلعة الموت» التي كان يتحصن بها «الحشاشون»، حيث يقول: «كانت فيها حديقة كبيرة ملأى بأشجار الفاكهة، وفيها قصور وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وبنات جميلات يغنين ويرقصن ويعزفن الموسيقى، حتى يوهم شيخ الجبل لأتباعه أن تلك الحديقة هي الجنة، وقد كان ممنوعا دخولها إلا لمن ينضمون لجماعة الحشاشين. كان شيخ الجبل يُدخِلهم القلعة في مجموعات، ثم يُشرِبهم مخدّر الحشيش، ثم يتركهم نياما، ثم يأمر بأن يُحملوا ويوضعوا في الحديقة، وعندما يستيقظون يعتقدون بأنهم قد ذهبوا إلى الجنة، وبعدما يُشبعون شهواتهم من المباهج يتم تخديرهم مرة أخرى، ثم يخرجون من الحدائق ويتم إرسالهم عند شيخ الجبل، فيركعون أمامه، ثم يسألهم من أين أتوا؟، فيردون: من الجنة، بعدها يرسلهم الشيخ ليغتالوا الأشخاص المطلوبين؛ ويعدهم إذا نجحوا في مهماتهم فإنه سوف يُعيدهم إلى الجنة مرة أخرى، وإذا قُتلوا أثناء تأدية مهماتهم فسوف تأخذهم الملائكة مباشرة إلى الجنة»! أليست هذه الصورة المحتشدة بكل عناصر «الكوميديا السوداء» ذات الصورة التي تتمثلها جماعة «داعش» اليوم في خطابها الذي تتوسل بها إلى اليفع والسذج وهي تقودهم إلى المحارق والموت الزؤام، وهي تختصر لهم الجنة في ملذات تبدأ من الخمر ولا تنتهي عند الحور والغلمان، في مشهد غرائزي بحت لا غرو أن يجد له قبولاً عند الشواذ والمراهقين والمنطفئين عقلاً وروحا ونفسا.. وقد شرعت لهم سوق نخاسة في القرن الواحد والعشرين يبيعون فيه الجواري والغلمان، في مشهد أقل ما يمكن أن يوصف به أنه «وصمة عار في جبين إنسان القرن الواحد والعشرين».

إن الحرب المضادة التي شنت على جماعة «الحشاشين» استطاعت أن تجتث شأفتهم، وأن توقف عدوانهم، لكن الثابت والمؤكد أن بذرة هذا «الشر» المقيت كمنت في العقل العربي، وبقيت حاضرة في جيناته تنتقل بصورة من صور الانتقال وتتكثف، متمظهرة بصور شتى ظللنا نشهدها على مر الحقب والسنوات، ووجدت في غفلتنا عن قراءتها على المستوى التاريخي والآني الفرصة للتمدد، فسمحنا لخطابات بالغت في غلوها وشطّت في فجورها ولم تجد إلا الإغماضة عن سلوكها، والتغاضي عن تجاوزاتها، ليعود «الحشاشون» مرة أخرى في مسلاخ «داعش»، وليس بينهما إلا اختلاف اللافتات، ورنين الأسماء فقط، فالطرح ذات الطرح، والعنف ذات العنف، والمعالجة ذات المعالجة.. فبقليل من النظر إلى صفحات الغد يستطيع المرء القول بأن الحسم العسكري لـ«داعش» أمر مهم وضروري، وسيقضي على رؤوس الفتنة، ومنابتها، لكن هذه البذرة المقيتة لا تزال كامنة في «وعي» جماعات أخرى، حاضرة في خاطرها وخطابها المخاتل والمراوغ، فلئن ذهبت «داعش»، وهي بإذن الله إلى زوال، فلا أقل من أن ننتبه إلى «دواعش» أخريات «يتبرعمن» بيننا في غفلة، ويتكاثرن بغريزة «بكتيرية»، فعالجوا الأمر قبل أن نستيقظ على «حشاشين» جدد، بلافتة «داعشية» أكثر دموية، وأبعد شططا، وأكثر فتكا وشرا.