-A +A
محمد مفتي
توقفت سيارتي في إشارة المرور أثناء زيارتي الأخيرة للولايات المتحدة، كنت خارجا لتوي من أحد الأسواق الواقعة على الحدود الأمريكية المكسيكية وعائدا إلى مدينة سان دياجو، عندما أضاءت إشارة المرور باللون الأحمر، لم أكن مهتما كالعادة بلوحات المرور الإرشادية لأني استخدم تطبيق «توم توم»، ولكن في هذه المرة استرعى انتباهي أحد المسارات الموجودة باللوحة الإرشادية والذي يشير للطريق إلى المكسيك، ملأني الفضول وفكرت في عبور الحدود لمشاهدة هذا البلد الذي لا نعرف عنه الكثير، وما أغراني أكثر على ذلك هو معرفتي المسبقة بأن الذهاب إلى المكسيك متاح لكل من يحمل تأشيرة الزيارة للولايات المتحدة.

استغرقت قليلا في التفكير، كنت مترددا بطبيعة الحال بعض الشيء، ولكن عندما أضاءت إشارة المرور باللون الأخضر تجاهلت التطبيق متوجهاً نحو المكسيك، طمأنت نفسي قائلا بأنني من الممكن رؤية الحدود فقط، قدت سيارتي، وما إن قطعت قرابة الكيلو متر الواحد حتى فوجئت بأنني وصلت إلى بوابات دخول المكسيك، خط من السيارات يصطف لعبور البوابة، لم ألحظ اهتماما كافيا من قبل مفتشي بوابات الجمرك لتفتيش السيارات، لمست ترحيبا عاما منهم بكل من يحمل تأشيرة الزيارة لزيارة بلادهم، وعند وقوف سيارتي عند نقطة التفتيش حاولت الاستفسار عن المسافة التي تبعدها مدينة تيوانا (مدينة حدودية مكسيكية)، ولكن كل محاولاتي للاستفسار باءت بالفشل لأن الموظفة لم تكن تتحدث إلا بالإسبانية.


وبمجرد عبوري إلى داخل المكسيك توقف تطبيق «توم توم» عن العمل، وبعدها مباشرة وصلتْ لهاتفي الخلوي السعودي رسالة تحتوي على أسعار الاتصالات بالمكسيك، أنا إذن في المكسيك بالفعل! سرت بالسيارة على غير هدى وبدون تطبيق وبلا لوحات إرشادية، سرت لبعض الوقت في شوارع لا تتسم بالنظافة ولا باحترام قوانين المرور، بنى تحتية متهالكة، ومرافق قديمة، ومبانٍ تعلوها الأتربة والقاذورات، شعرت بأنني عبرت من عالم لعالم ومن حضارة لحضارة، الفرق بينهما معبر حدودي ونقطة تفتيش، لكل منهما ثقافة وتقاليد وسلوكيات تختلف عن الأخرى، فالشوارع في الولايات المتحدة نظيفة، والواجهات لامعة، والحياة هادئة منظمة، هناك احترام للقوانين واهتمام بالنظافة ومراعاة لآدمية البشر وحقوقهم.

ضقت بالتجول في شوارع المكسيك ذرعا، فتوقفت عن السير في شوارعها وقررت العودة للولايات المتحدة مرة أخرى، استوقفت إحدى سيارات الأجرة وطلبت من السائق أن يعيدني للحدود، وعند وصولي فوجئت بآلاف السيارات المكدسة في انتظار التفتيش الجمركي لدخول الولايات المتحدة، هالني منظر عشرات البائعين -الشبيهين بالمتسولين- ممن يلحون لبيع التذكارات المكسيكية للمغادرين، وقفت في طابور الانتظار حتى وصلت لضابط التفتيش، أعطيته جواز سفري الذي تفحصه باهتمام ثم أعاد لي أوراقي وسمح لنا بالعودة للولايات المتحدة.

لم تتمكن المكسيك كثيرا من الاستفادة من مجاورتها للولايات المتحدة، فرغم أن هناك 42 معبرا حدوديا بين الدولتين يمكن من خلالهم الانتقال من المكسيك للولايات المتحدة والعكس، إلا أن الحدود الأمريكية المكسيكية تعد واحدة من أطول الحدود الموجودة بين دولتين على مستوى العالم كله، والتي تعكس حاجزا نفسيا يسعى المكسيكيون لكسره من خلال عبور الحدود والهجرة بشكل غير شرعي للولايات المتحدة للعيش والعمل فيها براحة وأمان، والولايات المتحدة بدورها تعتبر هذه الهجرة واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه اقتصادها العملاق، والتي تكافحها بأقسى الطرق وأشدها ردعا.

ورغم ذلك، يتنبأ الكثير من الخبراء بالقوة الصاعدة للمكسيك، كما أنها تعد من كبرى الدول السياحية في العالم والأكثر زيارة بعد الولايات المتحدة، ولكنها ستظل بعيدة عن الحضارة إذا ما ظلت حدودها مع الولايات المتحدة على هذا القدر من الإهمال والتجاهل وعدم الاهتمام، فهذا المعبر الحدودي يمكن أن يمثل لها نقلة ثقافية ثرية تعيدها لمربع السياحة والاقتصاد الأول، ولعل الفرق بين الثقافتين والحضارتين يكمن في ثقافة البشر، والبشر وحدهم هم القادرون على صنع المنجزات الثقافية، ولا شك أن النهضة الحقيقية تبدأ من تنمية العنصر البشري، وهذا ما يجب أن تبدأ به المكسيك وبقية دول العالم النامي، وإلا فلن يمكننا أبدا تقليص الفجوة الحضارية والهوة الثقافية التي تفصل بين العالمين وبين الحضارتين، سواء الآن أو حتى في المستقبل القريب أو البعيد.

mohammed@dr-mufti.com