-A +A
عبده خال
من عوالم النيابة العامة في العاصمة المقدسة ظهرت لنا حية تسعى، وهذا التعبير يشير إلى أننا أمام معضلة يمكن لها أن تلدغ وتصيب حياة فتيات أجرمن وتلقين عقوباتهن وبعد انتهائها وجدن أنفسهن أمام مصير مجهول.. فالشغب الذي حدث داخل مؤسسة رعاية الفتيات بمكة اتضح انتهاء محكوميتهن ورفض ذويهن استلامهن، وهذا الحدث كان متوقعا، وكان على المؤسسة البدء في اتخاذ التدبير حيال ما سيحدث عندما تجد الفتاة نفسها في الهواء.. لأن أي سجن لن يقبل بأي نزيل إكراما لظروفه وإبقائه محبوسا، ومهما طالت العقوبة زمنيا فإنها ستنفد؛ لذلك فإن المؤسسة مسؤولة عن عدم اتخاذ بدائل حين ترفض الأسر استلام فتياتها، والنظام مسؤول حينما لم يوجد تشريعا يلزم الإسرة باستلام الفتاة المعاقبة والمنتهية مدة عقوبتها... ولعدم وجود حل لمثل هذه القضية ستحدث ثورات متوالية، فإذا أردت أن (يطير البس) في وجهك سد عنه كل المنافذ.

ولو وازينا هذه القضية بمشكلة ترهق المجتمع فسنجد أن حوادث العنف الأسري طفحت على السطح، وكل يوم نسمع أو نقرأ عن قضية عنف حدثت هنا أو هناك، كالضرب والاعتداء والعضل والحرمان من ممارسة الحقوق الطبيعية في الحياة كالتعليم والزواج، وقد تنوعت القضايا بتنوع أمزجة الأشخاص الممارسين لهذا العنف حتى بلغت مرحلة إزهاق الروح.


ومع جريان حالات العنف ظلت وسائل محاربته تقف عند استقبال الحدث من غير وجود مبادرات متقدمة لاجتثاث هذه الظاهرة.

وقد يكون السبب في عدم تقدم وسائل محاربة هذا العنف خصوصية النظام الاجتماعي الذي نعيش فيه، إذ يتقبل المعنف أو المعنفة صنوف التعنيف بالصمت لمعرفته ما قد يحدث له من نبذ وإقصاء من محيط أسرته لو أنه أباح بما يجده من تعنيف، ويقينه بأنه لن يجد جهة تحتويه بعد البوح بما يجده من تعنيف احتواء كاملا.

ومشكلة المؤسسات الاجتماعية لدينا انتظارها حدوث العنف والتعامل مع كل قضية بمفردها من غير وجود خطة إستراتيجية تستهدف معالجة العنف واستقبال حالاته قبل أن تصل إلى المراحل المتقدمة كإزهاق الروح وهو تعامل لا يليق بمؤسسة أنشئت من أجل استباق الحدث لا انتظار وقوعه واستباق الحدث يقتضي وجود أنظمة متقدمة أيضا تمكن هذه المؤسسات من حماية أفراد الأسرة قبل تطور العنف ووصوله إلى مرحلة إزهاق الروح سواء من المعنف أو ممن يقع عليه التعنيف كتعبير صارخ عن يأسه وضيقه الشديد مما يجد فيلجأ إلى الانتحار.

فدور الحماية مثلا لا تستطيع استباق نتائج حالات العنف بالوصول إلى بيت المعنفة أو المعنف وإنقاذه، فهذا ليس من صلاحياته فهي -دور الحماية- تستلم الحالات المحولة إليها من قبل الشرطة والمؤسسات الإصلاحية والاجتماعية، بينما لو تقدم النظام في إجراءته بمنح الدور الصلاحية باستقبال الحالات تلفونيا وبمجرد التبليغ بوقوع العنف تقوم دور الحماية باستكمال بقية الإجراءات كالاتصال بالشرطة وتأمين المسكن والعناية الصحية والنفسية، ومن غير إعادة النظر في صلاحيات الجهات المحاربة للعنف الأسري فسنظل مستقبلين للحدث وليس سباقين في محاربة العنف.

وكان من الضروري على وزارة العمل التنمية الاجتماعية العمل على تجديد وتطوير آليات مواجهة العنف بإعطاء المزيد من الصلاحيات لدور الحماية (أو المطالبة بها) بدلا من أن تكون جهة إيواء أو جهة تنتظر حدوث الحادثة، وأعتقد لو حدث تقدم في الإجراءات ربما استطاعنا تجفيف منابع العنف الأسري بصورة أفضل مما هي عليه الآن.

وإذا أردنا ربط المقالة أولها بآخرها نقول إن ما يتم إهماله من تعنيف يصل إلى مرحلة متوالية تقود الفتاة أو الفتى إلى السجن وتنتهي العقوبة وما لم توجد برامج لتأهيل هؤلاء الخارجين من السجن فنحن أمام مشهد خروج حية ضخمة تسعى في المجتمع.