-A +A
سالم الكتبي
ندرك جميعاً أن أزمة قطر الحقيقية مع الدول الداعية لمكافحة الإرهاب لم تعد تقتصر على الاستجابة للمطالب والشروط التي وضعتها هذه الدول لتسوية الأزمة، بل امتدت لتشمل بعداً أعمق وأكثر تأثيراً يتعلق بانحسار الثقة في سلوك وممارسات القيادة القطرية لدرجة بات يصعب معها الوثوق في أي التزامات أو تعهدات رسمية لقطر.

مرحلة «الثقة صفر» في العلاقة مع قطر هي مرحلة غير مسبوقة تاريخياً في العلاقات بين الدول الخليجية تحديداً، وهناك الكثير من المؤشرات التي تبرهن على تعمق ملامح هذه المرحلة في العلاقات مع قطر، التي لا تبذل أي جهد يذكر في احتواء هذه «الأعراض» وتتمادى في ممارساتها بل وغرورها، وتتعامل مع الوساطات الدولية وفق منطق غريب وغير مألوف في العلاقات الدولية.


المتعارف عليه بين الدول أن يعمل كل طرف على تقديم ما يثبت حسن نواياه وجديته ورغبته في البحث عن تسوية سياسية لأي أزمة، إذا كان هذا الطرف يتسم بالمسؤولية المفترضة في التعامل بين القادة والزعماء، لكن ما يحدث من جانب القيادة القطرية أنها تتلقى «رسالة» الوساطات الدولية وفق منطق مغلوط وتفسرها باعتبارها تصب في مصلحتها، أو هي ضوء أخضر لها للتمادي في ما ترتكبه من حماقات سياسية، وهذا الأمر ليس صحيحاً بطبيعة الحال، فالدول التي تسعى للوساطة تدرك حقائق الأمور، وسبق لبعض قادتها مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أن وجه اتهامات صريحة وواضحة لقطر بدعم الإرهاب وتمويله، ولكن الحاصل أن هذه الدول لا تريد مزيداً من الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، وتريد احتواء الأزمة مع قطر من أجل استمرار قوة الدفع في الحرب ضد الإرهاب.

القيادة القطرية تدرك هذه الحقائق جيداً وليست غائبة عنها، ولكنها تحاول لي ذراع الجميع، ومواصلة جرائمها والإفلات من الحساب والمكاشفة باستغلال رغبة القوى الكبرى في التوسط بين الدول المقاطعة وقطر.

ما لا تدركه القيادة القطرية أن تأجيل معالجة أسباب الأزمة معها يعني أن لحظة الحساب المقبلة لن تكون مع الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، بل مع القوى الكبرى التي دفعت أثماناً باهظة للإرهاب، وعانت شعوبها الأمرين بسبب جرائم العناصر المتطرفة، التي تتربي على الأفكار الداعشية والقاعدية والإخوانية، التي تحمي قطر قادتها ورموزها.

ربما تعتقد قطر أيضاً أن جهود الوساطة الدولية تعني أن العالم ينحاز لها أو أنه «متشكك» في صدقية المطالب التي وضعتها الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، ولكن الحقيقة هي أن بناء المواقف يخضع بالأساس لحسابات إستراتيجية ترتكز على أولويات كل دولة على حدة، فالدول المقاطعة هي أكثر المتأثرين بجرائم قطر وتمويلها للإرهاب، وبالتالي يبدو من البديهي أن تتبنى موقفاً صارماً ضد ممارسات القيادة القطرية بعد أن «فاض الكيل» بالفعل؛ وأنا على ثقة مطلقة بأن «السلطان» أردوغان ذاته ربما كان أول من سيقف مهاجماً قطر لو أن الدوحة قد دفعت دولاراً واحداً لحزب العمال الكردستاني، أو استضافت أحداً من قادته!!

لا يجب أن تراهن القيادة القطرية كثيراً على «صبر» الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، فحكمة قادة هذه الدول ورشادتهم السياسية هي التي تحول دون تصعيد الضغوط على قطر، حتى الآن، والكل يدرك أن قطر لن تتحمل مزيداً من العزلة، وأن كل يوم يمر في هذه العزلة يعد بمنزلة خسارة مؤكدة لقطر، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، ولكن على الصعيد السياسي والإستراتيجي والمعنوي، ولكنه العناد والمكابرة، التي تحول دون رؤية القيادة القطرية للحقيقة.

لا يجب أيضاً أن تواصل القيادة القطرية أيضاً العمل وفق خطط تليق بتنظيمات وميليشيات لا بدول وشعوب لها مصالحها الإستراتيجية سواء مع محيطها الإقليمي أو بقية دول العالم، فالصمود في مواجهة المقاطعة لا ينطوي على أي مكسب أو «انتصار» سياسي يذكر للقيادة القطرية كما يصور لها المنافقون والمخادعون، فمثل هذه الحسابات ليس لها محل من الإعراب في هذه الأزمة، فالدول العربية الداعية لمكافحة الإرهاب لا تسعى سوى لأن تكون قطر دولة طبيعية تعمل لمصلحة شعبها وبقية الشعوب العربية ولا تسعى للخراب والفوضى والمؤامرات الهدامة، ولا تهدر ثروات الشعب القطري في تنفيذ مؤامرات تنظيمات وجماعات باتت الشعوب العربية جميعها على يقين من سوء نواياها وما تضمره من شر لهذه الشعوب.

كل يوم يمر في الأزمة القطرية، تتعمق أزمة الثقة وتتشعب وتكتسب أبعاداً إضافية، وهذا الأمر يعني مزيداً من الصعوبات النوعية في العودة للتعايش الطبيعي بين القيادة القطرية وبقية القادة والزعماء، لاسيما قادة الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، وهو ما لا تنتبه إليه القيادة القطرية، التي أهدرت الكثير من الوقت والفرص على أمل أن تنجح في حلحلة موقف الدول الأربع واختراق الصفوف واستنساخ سيناريوهات سابقة، ولم تدرك أن الدول الداعية لمكافحة الإرهاب قد استوعبت درس المراوغة والخداع القطري جيداً ولن تسمح بتكراره مجدداً!

أعتقد أن الممر الوحيد الآمن لقطر الآن لإنهاء أزمتها هو مصارحة الذات، وتقديم ما يثبت حسن النوايا وإبداء إرادة حقيقية لتسوية الأزمة، ومعالجة جذورها، والطريق إلى ذلك معروف وواضح، ولا يحتاج إلى مزيد من الشرح، ولكن الأمر يتوقف على نوايا الأمير: وهل يريد أن يستمر قائداً لدولة حققت كل ما حققته تنموياً ضمن منظومة دول مجلس التعاون، أم يفضل التبعية والدوران في فلك الملالي، مع ما ينطوي عليه ذلك من تبعات إستراتيجية مدمرة لمستقبل قطر والقطريين؟!

* كاتب إماراتي