-A +A
أنمار مطاوع
عندما ولدت قناة الجزيرة في نهاية عام 1996، كان جو الإعلام العربي مشبعا بالتكتم والتعتيم، فسحرت تلك الوليدة عقول الناس -بما لم يعهدوا من قبل: بث الآراء المختلفة، والمتعارضة، وادعاء الحرية المبالغ فيها.. وهي متلثمة بعمامة (الحيادية). فأعتمت على المشاهد رؤية الحقيقة. وخلال أقل من خمس سنوات، أنعم الله عليها بأحداث 11 سبتمبر، فكانت هي القناة الوحيدة التي تغطي الحرب في أفغانستان على الهواء مباشرة؛ تذكرنا بذات النعمة التي هبطت على CNN خلال أزمة الخليج الثانية 1990. إضافة إلى انفرادها ببث رسائل (ابن لادن) المثيرة للتقزز العالمي. فازدادت عتمة الرؤية لتشمل حتى المثقفين العرب؛ الذين اعتبروها مصدرا موثوقا للمعلومات أكثر من كل القنوات العربية وربما الأجنبية. وتاهت سنن الإعلام وميثاقه الأخلاقي في العتمة. واتخذت القناة طريقا موجها لحريتها في اتجاهات بعيدة عن المركز.

والحال تلك، أخذت دولة المنبت صولة الوهج والتضخم.. وصدّقت أنها تستطيع أن تخرج من تحت الجلباب والعباءة وتصبح كيانا مستقلا مؤهلا لدخول دوري السياسة العالمي. ومما زاد في الطنبور نغمة، أن (القناة) أصبحت ورقة ضغط تُطرح على موائد التسويات السياسية والمقايضات والمعاهدات مع الأطراف الأخرى.. ووجدت إلى ذلك سبيلا ومنفذا. واستطاب الحاكم لعبته الصغيرة. بالتالي، أصبحت الفانتازيا أكبر. وبدأت العنجهية الإعلامية.. واستساغت رمي عصا فرعون أمام الملأ. وتعالت على دول الجوار واعتقدت أنها تستطيع أن تتحكم في أقدار دول الإقليم.


في ظل الانزلاقات والمتاهات.. فقدت قناة الجزيرة ذاكرتها، لم تعد تعرف من أي تراب تنطلق أو على أي أرض ترتكز أو أي قيم تتبنى. فبدأت منذ انطلاق الثورات العربية -مشرق هذا العقد- بالتلاعب بمفاهيم الدين والسياسة والفضيلة والاستقرار.. وسمِّ ما شئت.. النهش في كل ما حولها لتحقيق حلم تسيد أرض المركز على الإقليم. أصبحت تلعب على المكشوف.. وتبالغ في خلط الأوراق.. وتجتهد في فكرة الفوضى الخلاقة.

لكن أسلوب الحاوي الإعلامي لا يستمر طويلا. ففي النهاية، ينقلب السحر على الساحر لأن حجم الإعلام من حجم السياسة التي تحميه.

الآن، لتصحيح المسار، يجب أن يعود كل إلى حجمه الطبيعي، القناة والدولة التي تحتويها. نعم.. من الطبيعي أن يعارض المنتسبون للقناة -خصوصا تلك الوجوه التي تظهر على شاشتها- فكرة إغلاقها. فطيور الحبارى ليست من الغباء لتصوّت بالموافقة على قانون يجيز حرية الصيد. لكن المواقف والمصالح الشخصية تُصبح ليست ذات أهمية عندما تصل التجاوزات حدود دعم الإرهاب والتحريض عليه والنفخ في حطب الفوضى لإحراق المنطقة. يجب أن تعود الأمور لمسارها وحجمها الطبيعي.

anmar20@yahoo.com