-A +A
نجيب يماني
تزداد قناعتي مع الأيام بأن «ثقافة الكراهية» قد تغلغلت في مفاصل مجتمعنا بصورة «سلبتنا» حتى أن ننظر في كل الاتجاهات قبل إصدار الأحكام القاطعة على الأشياء من حولنا.. و«حرمتنا» فضيلة الغفران واستمطار الرحمة للمخطئين، و«جعلتنا» مجتمعًا حذرًا، يتوقع رقيبًا يحاسبه إن مشى في الأسواق، أو سعى إلى عمله، أو نام في بيته.. رقيب ناب فينا عن «الملكين» الكريمين، وأغلظ الخطاب لنا فيما يستحق ولا يستحق، وحوّلنا إلى «قُصّر» لابد أن يؤدبوا، وجناة يتوقع منهم «الخطأ» الموجب للردع والعقاب في أي لحظة، فغاب عنّا رقيب الذات –إلا قليلاً– وفشا فينا «الخوف» من الرقيب «الآدمي».. الذي كلما بذلنا له من الحذر طرفًا مضى فينا ميلاً، وجلس على مداخل أفواهنا ينتظر زلة لسان، ليحكم ويقرر بغلظة وفظاظة.. وكلما اكتفينا بالصمت على جرأته تولى «تفتيش» النوايا، والبحث عن محتملات للتجريم..

شيء «ما» يسلبنا عافية الحياة، ويجثم على ذواتنا بكل قسوة، ويحيلنا إلى كائنات تمشي على أطراف أصابعها كي لا تطأ على «لغم» ينتظر زلتها، أو مجرد توهم «الزلة»..


إن كان في ما سقته آنفًا من جناية على «فئة» من فئات الناس في مجتمعنا، فارجعوا إلى مئات بل آلاف من السوابق، والتصرفات التي قامت على «الظنة»، وانتهى بعضها بـ«المظنون» إلى الموت الزؤام.. ولست في حاجة إلى أن أعيد عليكم هذه «القائمة السوداء» من التصرفات التي أفضت إلى شيوع «ثقافة الكراهية» في مفاصل المجتمع، بشكل ينسرب في الهمس، ويطفح في الجهر الخفيض حينًا، وفي الجرأة أحايين أخرى..

لم تعد لدينا القابلية على هضم بعض «التصرفات»، والنظر إليها بروح المرح والدعابة، و«حسن النية»، فما عندنا لها إلا «التجهّم» وسوء النية، وغليظ العبارة، وردع «الجاني» حد التشهير والتبكيت والإخزاء..

مثل ما حدث أخيرًا حيال الموظف بالتعليم في منطقة الجوف، الذي أعيته الحيلة في معالجة أمر زوجته ونفورها، لأمر بينهما، فاهتدى إلى حيلة التسلل إلى مقر عملها ليلاً، وتدبيج عبارات رومانسية وعاطفية، وزاد على ذلك بوضع هدايا مالية وعينية على مكتبها.. تصرف لو أنه جرى في غير مجتمعنا لطارت به عناوين الأخبار مدحًا لصنيع قلب سعى لرضاء المحبوب، ولرأت فيه «قدوة» حريُّ بمن يغاضب «زوجه» أن يسلكها طلبًا للغفران، وإصلاحًا للأحوال، لكن الذي حدث عندنا جد مختلف، ونقلته الصحف المختلفة، ورأت فيه خروجًا عن «النص» فأصبح «التسلل» «اقتحامًا»، و«المسكين» موضع «استغراب واستهجان الكثيرين».. ونهاية المطاف خضع للتأديب وربما الفصل عن العمل.. لتزداد مأساته، التي أراد لها أن تحل من جانب واحد، فعقدتها عليه «ثقافتنا» فجعلت منها عقدًا كثيرة عصية على الحل.. ولم يذهب أي أحد من «المغاضبين» أو «المستنكرين» لينظر إلى الغاية النبيلة التي هدف إليها، ولو أنهم فعلوا ذلك لألانوا قلب «زوجته»، وحثوها على قبول هذا «الاعتذار المبتكر»، والقلب الذي رضي بأن يسعى إلى ما يرضيها «غيبة» و«حضورًا»..

هذا وجه من وجوه ما توطن في نفوسنا من مساقط الحذر، وثمر من ثمار «ثقافة الكراهية» عندنا.. التي لا ترد المسيء ردًا رفيقًا، ولا تؤول حديثه تأويل «محبة» و«عطف».. أنظر إلى ما لحق أحد المعلقين الرياضيين أخيرًا، حين بلغ به الطرب على هدف أحرزه محترف أجنبي لا ينتمي لملّة الدين الخاتم، فصاح بصوت الفرح: «ينصر دينك يا شيخ»، لينال من الوعيد والتهديد والتبكيت، ما لا يتفق مطلقًا مع «زلة اللسان» التي صدرت منه، وكان حريًا بما أغلظوا له الخطاب، وعنفوه أن يردوه ردًّا رفيقًا دون تلويح بعصا القانون والمعاقبة والمحاسبة، ولهم في حبيبنا المصطفى الأسوة الحسنة في ذلك، فعَن أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ»..

نعم.. لا تهديد بعقوبة، ولا فظاظة في الرد، ولا وعيد بالعقاب، وإنما هو إقرار بخطأ ناتج عن «شدة الفرح»، ألم يكن من المناسب أن يذهب حسن الظن بنا إلى مقايسة الحال بالحل، واعتبار ما قاله المعلق «عثرة لسان» من نواتج «شدة الفرح»..

أتذكرون ما حدث مع ساحرة الرياض وصاحب المكتبة وكيف رجمها الكل ظلماً وعدواناً وتم تصويرها وفضحها أمام الملأ قبل أن تظهر وتبرئ ساحتها وغيرها كثير. أيها الجالسون على أفواهنا، والمتربصون بنوايانا.. ارحمونا من «ثقافة الكراهية»، وعودوا بنا ومعنا إلى رفق الإسلام، ورحمة الدين الخاتم، وإيلاف سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فذلك أجدر بنا وبكم لإشاعة المحبة، وشيوع السلام.