-A +A
نجيب يماني
لم أجد من توصيف مناسب لما أقدمت عليه حركة «حماس» بإعلانها المفاجئ عن القبول بـ«دولة فلسطينية بحدود 1967م» غير القول إنه دخول من باب الخروج، حتى مع إبدائها شيئاً من «عنترياتها الحنجرية» القديمة بربط اعترافها بدولة إسرائيل بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ضمن حدود معترف بها ويمكن الدفاع عنها. ومن الواضح أنه شرط للاستهلاك الإعلامي، ومحاولة لاختطاف جهود القيادات المخلصة الذين أدركوا منذ وقت مبكر جداً أن السبيل الذي تنتهجه «حماس» ومثيلاتها من الحركات الأخرى لا يفضي إلا إلى مزيد من الموت والدمار والتشريد للشعب الفلسطيني، وأصبحت المقاومة للمحتل شماعة تبرر بها حماس وحزب الله ومن يدور في فلكهما استبدادها وتحكمها وفسادها.

نعم! إنه دخول من باب الخروج، دخول مذل، أخّر القضية الفلسطينية ردحاً من الزمن، وفوّت عليها فرص إقامة دولتها المستقلة في وقت كانت فرص التفاوض متاحة، وعناصر الضغط الداخلي والخارجي ذات تأثير وفعالية أكبر مما هي عليه اليوم. دخول من باب لم تكتفِ «حماس» بلعن فاتحيه في زمن سلف، بل دمغت كل القيادات الوطنية بـ«الخيانة والعمالة والاسترزاق»، ولم تُبقِ من قاموس الشتائم مفردة إلا رمت بها المفاوضين، الذين غلّبوا جانب المصلحة ودرء الأخطار وفق المعطيات الماثلة، على أوهام «كنس إسرائيل» ورميها في البحر، دون معطيات سوى الخطاب الديماغوجي العصابي المهيّج. حسن نصر الله وإسماعيل هنية مثالان لهذا الخطاب، والنتيجة أرتال الموتى بآلة العنف الإسرائيلي العمياء، علاوة على أن هذه الحركات التي تدعي المقاومة خاضت حروباً وتدخلت في بعض الدول العربية أكثر مما خاضتها ضد إسرائيل في مصر والأردن ولبنان وليبيا، وهاهو المناضل والمقاوم أحمد جبريل ينضم إلى «الأسد» لمحاربة الثورة والقضاء عليها.


وعلى غرابة موقف «حماس»، ومفارقته البائنة لجوهر خطابها الذي تبنته ردحاً من الزمن، وفجائية توقيته، إلا أن المتأمل للساحة العربية، وبالضرورة العالمية، ربما يجد ثمة تفسيرا لهذا الموقف، فمن الواضح أن حركات «الإسلام السياسي» بدأت في الضمور وفقدان شعبيتها بما يكشف لأكثر المنضوين تحتها زيف شعاراتها، وازدواجية مواقفها، وانحراف قياداتها ومفارقة مرتكزاتها التي قامت عليها. كما أن الدول الحاضنة لهذه الجماعة، والداعمة لخطابها، والموجهة لها لإحداث القلاقل والأزمات في البلدان العربية المختلفة، باتت مشغولة هي الأخرى بما يحدث في محيطها الداخلي والإقليمي والعالمي، ولم يعد دعم مثل هذه الحركات من أولوياتها، ما أفقد «حماس» على وجه التحديد الدعم اللوجستي الذي كانت تجده من دول مثل إيران وقطر وغيرهما التي تمددت فيها حركة «الإخوان المسلمين»، وبسطت نفوذها على مستوى السلطة التنفيذية، ومفاصل الاقتصاد، ولم يعد لحركة «حماس» من معين غير الاتكاء على الداخل، بكل ما فيه من تشظٍّ وصراعات، تحمل الحركة الوزر الأكبر في إحداثه في الجسد الفلسطيني، فالمشهد الفلسطيني بات اليوم من التشظي والانقسام ما بين قطاع غزة ورام الله، بحيث لن تفلح فيه محاولة «حماس» الأخيرة في رتق الفتق الكبير، بخاصة أن القناعة تبدو كبيرة ويقينية بأن هذا التوجه الذي انتهجته «حماس» بقبول دولة فلسطين بحدود 67 أقرب ما يكون لنهج تكتيكي منه للإستراتيجي، وبينهما مسافة كبيرة تنمو تحتها ظلال الريبة والشك، بخاصة من قبل الطرف المعني بالتفاوض في هذا الجانب، وأعني به الجانب الإسرائيلي، الذي أوضح موقفه الرافض لنهج «حماس» الجديد عقب الإعلان مباشرة، بما يسلب الحركة حق صدارة المشهد إن هي أرادت أن يحصل الفلسطينيون على وطنهم الحلم وفق الحدود المشار إليها، دون مزايدات أو ادعاءات جوفاء، وتقزيم لدور الآخرين، فلا مكان لـ«حماس» بعد هذا القبول الاضطراري سوى مقاعد المتفرجين، والكف عن تسريب خطابها الدوغمائي المنسرب إليها من دول ما عادت هي الأخرى في مأمن مما يحيط ويجري في ساحتها، بخاصة أن وفرة «الإسلام السياسي» المنفلتة، قد أوجدت تنظيمات وحركات أخرى أكثر فداحة في الفعل، وأعظم خطراً في الراهن المعيش، وأبعد طموحاً من «تلقي» المعونة من الأنظمة الحاكمة، إلى «زلزلة» قواعدها توطئة للانقضاض عليها، وإنزال حلمها بـ«دولة إسلامية» لا تعترف بالحدود، ولا تلتزم بالعهود والمواثيق!

صفوة القول، إن الموقف «الانقلابي» الذي اتخذته «حماس» حري بأن يجردها من طموح تصدّر المشهد النضالي في الواقع الفلسطيني، فمن يتأخر عن فهم ما يدور في الساحة كل هذا الوقت، ويستدرك ما وصل إليه الآخرون بداهة قبل زمن طويل، غير جدير بأن يكون في الصدارة على الإطلاق، فمكانه الطبيعي أن ينضم إلى القافلة ليحرس آخرها، ويخرس صوت التخوين والتأثيم لرفاق النضال القابضين على الجمر، بل إنه مطالب بشكل مباشر بتقديم اعتذار عريض وواضح لا لبس فيه لما ألصقه بالشرفاء والمناضلين من تهم جزاف، وشتائم مقذعات، ولهم حق خيار القبول تغاضياً، أو المحاسبة عدلاً إن أرادوا ذلك، وليس عليهم من معتب إن فعلوا ذلك.