-A +A
غسان بادكوك
قبل الدخول في صلب مقال اليوم أود أولاً التنويه إلى أمر له صلة بموضوع المقال هو قيام أحد مقاهي جدة بتصحيح وضعه المخالف الذي أشرتُ إليه في نهاية مقالي المنشور في هذه الصحيفة قبل أسبوعين بعنوان («نزاهة» بحاجة إلى نظام يُمكِّنها لا تنظيم يُقيِّدها)، مخالفة المقهى التي استمرت طويلاً أعطته ميزة نسبية (غير عادلة) دوناً عن باقي المقاهي؛ في تحدٍ سافر لتعميم وزارة الداخلية الصادر عام 1432هـ الذي منع تقديم المعسلات والشيش في الأماكن المغلقة، وبعد نشر المقال بأيام التزم المقهى المذكور بتعميم (الداخلية) مزيلاً بذلك مخالفته؛ ومنهياً وضعاً شاذاً، وإن كنت لا أعلم ما إذا كان لأمانة جدة دور في تصحيح وضع ذلك المقهى أم أن التصحيح تم بـ(مبادرة) من المالك؟.

الإدانة والتشهير:


الوضع المريب السابق يثير سؤالاً عن سبب نشوء واستمرار تلك المخالفة من الأساس؟، والموقف برمّته هو برأيي نموذج عملي؛ يؤكد زيادة فرص مواجهة الفساد (فعلياً) بالتنفيذ الدقيق للأنظمة، وعدم محاباة المتنفّذين، يحدث ذلك فقط لو خلصت النوايا، وقامت فرق المراقبة الميدانية بدورها بـ(أمانة)، وتوافرت الأدوات النظامية الملائمة، وأدّت الأجهزة التنفيذية واجباتها بشكل نزيه؛ واستشعر المسؤولون عنها أنهم عرضة للمساءلة وربما الإدانة والتشهير لو تهاونوا، أمّا الاعتماد على الوازع الديني والخُطَب الرنّانة واللوحات الوعظية كالتي تنشرها هيئة نزاهة في شوارعنا، فقد أكدت تجاربنا المريرة السابقة أنها غير كافية للجم الفساد والتصدي للفاسدين.

المسؤولية والمحاسبة:

ومعلوم أن الفساد هو نقيض الصلاح؛ وبذلك فهو آفة خطيرة تهدد التنمية، وتُحبِط آمال الناس، وتقوِّض فرص المجتمعات في التقدم، ولا يتوقف الفساد عند نمط محدد بل يأخذ أشكالاً متعددة، من أشهرها الفساد المالي الذي يُعتبَر الاعتداء على المال العام أحد أكثر أنواعه شيوعا في معظم الدول النامية، هذا بالإضافة إلى استغلال نفوذ المناصب، وإعاقة سير العدالة، والتغاضي عن المخالفات، والإثراء غير المشروع، ودفع الرشاوى أو قبولها، والمحاباة على حساب حقوق الآخرين، وعدم تكافؤ فرص التوظيف، وتعمُّد تعقيد الإجراءات النظامية الواضحة لاستغلال حاجات الناس، والمؤكد أننا لن نستطيع حماية النزاهة بدون تعزيز الربط النظامي بين كلٍ من المسؤولية والمحاسبة؛ وهو ما يتطلب أنظمة قوية وواضحة وفعّالة؛ أخذاً في الاعتبار أن ترتيب المملكة عام 2016 على مؤشر مدركات الفساد (CPI) الصادر عن منظمة الشفافية الدولية جاء في المرتبة الـ62 عالمياً من أصل 176 دولة.

الضمانة القوية:

وإذا كنّا -كمجتمع- قد ساءنا إسقاط مجلس الشورى قبل سنتين لمشروع نظام فعّال لهيئة نزاهة، بدلاً عن تنظيمها الحالي الذي لا يتيح لها التحرك بمرونة كافية لمواجهة الفساد، فإن المفارقة هنا هي أن المجلس ذاته سبق له وأن حقق واحداً من أهم إنجازاته طوال تاريخه الحديث حين أقرَّ في شهر صفر الماضي نظام حماية المال العام، بعد تعثر صدوره لمدة 17 عاماً، وأثق بأن ذلك النظام سيشكِّل بعد صدوره وتنفيذه أحد أقوى الضمانات لمواجهة الفساد؛ كون مواده الثماني والعشرين تنطوي على جملة من الأحكام القوية والإجراءات الواضحة والجزاءات الرادعة لكل من تسوِّل له نفسه الاعتداء على المال العام.

رأي المجلسين:

ومن المفترض أن مجلس الشورى قد قام برفع نظام حماية المال العام (بعد أن أقرَّه قبل 8 أشهر) إلى مقام الملك -يحفظه الله-، ووفقاً لنظام المجلس فإن الخطوة التشريعية التالية لإقرار النظام هي تفضُّل الملك بإحالة النظام لمجلس الوزراء الموقر، راجياً أن تتطابق وجهات نظر مجلس الوزراء مع مجلس الشورى تمهيداً لموافقة الملك على النظام قبل صدوره بمرسوم ملكي؛ أما إذا تباينت وجهات النظر بين المجلسين، فسوف يعاد النظام لمجلس الشورى لإجراء ما يلزم عليه، قبل أن يرفعه للملك مرة أخرى لاتخاذ ما يراه بشأنه، وهكذا فإن رحلة إصدار النظام باتت وشيكة؛ رغم أنها طالت بعض الشيء.

من أين لك هذا:

ومع تزايد روح الثقة التي أشاعها اختيار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد وتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء، وتأكيد سموه بأنه (لن ينجو أي شخص تورّط في قضية فساد؛ مهما كان منصبه)، ينتظر المجتمع بتفاؤل كبير صدور نظام حماية المال العام قريباً، الأمر الذي من شأنه توفير الحاضنة المناسبة لضرب الكثير من ممارسات الفساد؛ وفي مقدمتها الفساد المالي كما سبقت الإشارة؛ خصوصاً أن النظام يتضمن مادة في غاية الأهمية لحفظ المال العام؛ كثيراً ما طالبنا باعتمادها وتتعلق بإقرار وتطبيق مبدأ جوهري يعرف شعبياً بمبدأ (من أين لك هذا؟) ويُطلق عليه في النظام مسمى (مبدأ الذمة المالية) وهو يتعلق بثروات الموظفين العموميين ومن يتصل بهم بدرجات القرابة الوثيقة.

مواد نظامية قوية:

أخيراً، فإن مبدأ (من أين لك هذا) ليس هو مكمن القوة الوحيد في النظام المرتقب لحماية المال العام الذي نتطلع لأن يرى النور خلال الفترة القريبة القادمة كي يدعم النزاهة ويضع حداً للتسامح مع الفاسدين والتهاون مع المفسدين، بل إن النظام حفل بالعديد من المواد القوية التي سبق وأن استعرضتها بالتفصيل في مقال سابق نشرته هذه الصحيفة في 17 ديسمبر 2016 تحت عنوان (نظام حماية المال العام إنجاز شوري متميز لا يحتمل التأجيل)، ويمكن للمهتمين الاطلاع عليه على الرابط التالي: http:/‏/‏okaz.com.sa/‏article/‏1515204.