-A +A
جميل الذيابي

@JameelAlTheyabi



أكره الحزن. ومن ذا الذي يحبه؟ وأكره لحظات الفقد. وأكره المفاجآت غير السارة. ولا شك في أن اللحظات المفجعة مؤلمة لقلب كل إنسان. وتكون أشد إيلاماً حين تتعلق بزميل عزيز غالٍ مثل أستاذنا وصديقنا تركي بن عبد الله السديري الذي نعاه الناعي أمس. والحق أنني لم تغادرني قط أسئلة تركي السديري. وحين تبلغت فاجعة رحيله، تذكرت ابتسامته الودودة، وحياءه المعهود، وحزمه، وصرامته ومزاجيته.


كانت الصحافة قدر أبي عبدالله. وكان تركي السديري فارسها الذي لا يقهره التعب. كأنما خُلق لهذه المهنة، ليرفع رايتها، ويحدد هويتها، وينافح عن مؤسساتها، والعاملين فيها. فقد بدأ المهنة من محرر صغير حتى وصل إلى رئيس تحرير الزميلة "الرياض"، التي أضحت ملامح تركي عنوانها وهويتها وقوتها، وأضحت انعكاساً لجرأته في التجديد، ولقوته في المواءمة المطلوبة لمعادلة الدور التنويري للصحيفة، وإيجاد منتج صحفي ناجح يوفر مدخولاً للمساهمين ويغطي نفقات التشغيل والتطوير والتحرير. ولذلك بقي باقتدار على كرسي رئاسة التحرير على مدى 41 عاماً، فاستحق أن يوصف بأنه شاهد على حقبة مهمة من تاريخ المملكة؛ بل استحق عن جدارة لقب "ملك الصحافة السعودية" الذي أطلقه عليه العاهل الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز.

ولا يمكن أن تُذكر الزميلة "الرياض" ولا يقفز إلى الذاكرة واللسان اسم الأستاذ تركي السديري. كيف لا وهو الذي بذل جهوداً مضنية لتوسيع هامش حرية الصحافة، وإيجاد معادلة مقبولة للعلاقة التي ينبغي أن تكون بين الصحفي والسياسي، وأن حرية الصحافة ليست خصماً على واجبات المواطَنَة والولاء للوطن. ومع أن أبا عبد الله ظلّ رئيساً للتحرير طوال تلك العقود، إلا أنه ظل يستزيد من المعرفة والخبرات بالسفر لحضور المؤتمرات والملتقيات والندوات، وتغطية الزيارات المهمة لقادة المملكة على مدى أربعة عقود. ولم يتخل عن لقائه اليومي مع القراء، من خلال عموده الذائع "لقاء"، الذي تبدت من ثنايا أسطره براعته كاتباً، ورؤيته الثاقبة لقضايا المجتمع والأمة، وموقفه الحكيم لحلحلة كثير من التعقيدات، والمشكلات، والأزمات. وهي حكمة وحصافة ورجاحة رأي بناها باطلاعه المستمر، وبقائه جزءاً من المجتمع، وفي قلبه، وليس خارجه، أو كمن ينظر إليه من برج منعزل.

كان العزيز الراحل أحد الأركان الأساسية للصحافة السعودية، ليس من باب توليه رئاسة تحرير الزميلة "الرياض" فحسب، بل إن التطوير الذي شهدته "الرياض" على يديه شاهد على إنجازه واصراره، وروحه القيادية. وكذلك من باب عنايته بتطوير مهنيين سعوديين في مختلف أقسام التحرير، ما رفد سوق الصحافة بكوادر ساهمت في توسيع رقعة التنوير، والتطوير، والاعتناء بهموم الوطن والمواطن. لذلك كلّه وغيره مما بذله الفقيد، فهو جدير حقاً بأن يوصف بالنُّبل الذي هو أهل له من دون أدنى شك.

ومع أن تركي السديري عانى كثيراً من المرض خلال العقد الماضي، وخضع لعمليات جراحية عدة؛ فإن المرض لم يفقده ابتسامته العذبة، ولم يوقف قفشاته التي كانت ترياقاً للتعب والغضب. وظل حيث يكون مع الزملاء بلا استثناء في المؤتمرات والمناسبات مركز جذب، ودائرة معلومات متنقلة، وعوناً لكل من احتاجه. ولذلك فإن فاجعة رحيله تجعل غيابه فقداً كبيراً للصحافة السعودية، والخليجية، والعربية. وحتى بعدما تمكّن منه المرض، وبدأ يهدّ جسده النحيل؛ لم يهدأ أبو عبد الله، ولم يتخلّ عن اهتمامه بالمؤسسة التي كرّس حياته لإنجاحها، وجعلها شريكاً في مهمات بناء الوطن، ومواجهة تحدياته.

«سنفتقدك»... هو بلا شك "المانشيت" الذي سيجمع عليه الزملاء والاصدقاء حزناً على رحيل أبي عبدالله. ولا مفر لنا من هذا الحزن الذي يتشبث بقلوبنا، ويمتحن صبرنا، ويكتب موشحات حزينة في دفاترنا تترجم ذكرياتنا الجميلة مع ذلك الإنسان النبيل تركي السديري. كل العزاء لاسرته الكريمة وللوطن بأكمله.

يا صاحب زاوية «لقاء» المحفورة في ذاكرتنا... لا يسعنا أمام هول غيابك غير أن نقول "إلى لقاء". إنا لله وإنا إليه راجعون.