-A +A
فؤاد مصطفى عزب
صباحا يحمل همه.. والملاذ الوحيد لي بيت الله.. كان الشارع الإسفلتي يمتد تحت سفح الندى الصباحي المغزول برائحة الفجر.. أحب جداً هذا الشارع المؤدي إلى الحرم حيث المسجد في نهايته.. نغمات الأذان الأسطورية.. الضوء صباحاً على المآذن يصل إلى حد الانسياب الفضي يتساقط كعطر يملأ أرجاء الفضاء.. صباحاً جديداً يحتفل بولادته.. نصاعة الحرم.. نظافة متألقة ورائحة عبقة.. أتوضأ من زمزم.. لزمزم طعم ورائحة ولون وشفاء من كل داء.. قلوب هائمة حائرة تبحث عن الخلاص تطوف حول الكعبة تتجدد الشكوى وتتساقط الدموع.. هنا من يشعر بالقهر والحزن يسندون رؤوسهم إلى أستار الكعبة يشكون في صمت بعد أن حُملت أنفسهم ما لا يطيقون.. أثار فضولي مشهد أحد المسنين وقد أسند رأسه إلى جدار الكعبة يتمتم في تضرع وبكاء مكتوم اقتربت قليلاً لأجد رجلاً سبعينياً يبدو عليه العقل والاتزان من هيئته وقد جلس على ركبته وأمسك بأثواب الكعبة كمن يتمسك بقشة في بحر خشية الغرق.. دموع وابتهالات لا تتوقف.. سكن قليلاً بعد نوبة بكاء استمرت لدقائق ابتعدت عنه لأجلس في أحد جوانب الكعبة وقد أصبحت أكثر سوءًا من حالته التي يعلم بها الله فقد تأثرت بدموعه وحزنه.. طفلاً غضاً لم يزل عوده أخضر كان وجهه جميلا وشاحبا وشعره ناعما وفمه مثل تفاحة تضيء.. الأب بجواره يدعو الله بصوت عالٍ أن يخفف عنه وابنه كان يدعو الله دعوات حارة في تبتل وخشوع.. كنت أصغي إلى الطفل الذي يبدو أنه والأب من الجزائر كان جسد الطفل ممدداً على أستار الكعبة كماء المحيط كغصن مبتور يبكي بخلسة بدموع كشموع النذور كان يذوب في حزنه كبيت من طين تحت المطر يبكي بحرقة من لا يستطيع استبدالها بغير ذلك صوته كان في أذني كارتطام القوارب بالريح.. كنت أصغي إليه خلسة وهو يغسل الصباح بأحاسيسه.. لا أقدر أن أصف حالته ولكن جملة واحدة أنهكتني جملة كان يرددها بصوت رطب معاتباً ((ليه تركتيني لوحدي)) سكت عن الكلام لكن نظراته الطويلة كانت تلتصق بأستار الكعبة ربما كان هناك سر أراد أن يخبر به أمه دون أن يسمعه أحد فاختار هذا المكان.. مناجاته جارحة كان صوته المرتجف وتوسله المخلص ينخر العظام ويعبث باستقرار الدم.. كان يخاطب أمه مستغرقاً كأنه يغرق في امتداد شيء ما!! ((كان أخذتيني معك أنا أبغى أكون معاك)) يقولها وهو مغمض العينين كأنه يخفف من ألم صدره كانت دموعه تغطي خدوده المحمرة وأنفه المبلول من البكاء.. أحسست أن الأرض تنسحب من تحت قدمي وأنا أسمع عتابه الحار لوالدته.. عتاب حار كرغيف التنور.. كنت أشاهد بئر الأحزان المطل من عيني الطفل وهو يعاتب أمه التي تركته دون لحظة وداع وانتقلت للعالم الآخر أتأمل خشونة الحياة وحجم معاناة البشر وأتفحص الوجوه من حولي.. وأتحسس همي.. كان نهر كلامه العميق ودموعه التي تنخر الروح كالموس تجعلني أفكر كيف نغفل عن النهايات أحياناً وخطف القدر للأحباب المحتمل آمنين في جوف الطمأنينة عاكفين على أشيائنا المسافرة في دمنا.. التفت إليه بعد أن توقف عتابه وارتعاشة روحه لأجده قد استسلم لخيط النعاس الذي تسلل إليه فغفا على أعتاب الكعبة كقمر تدلى في براري الله مطعوناً على البلاط العاري.. لحظات وإذا بالأب يهز الطفل من كتفه يعطيه فطيرة غذاء وشربة من زجاجة بلاستيكية.. ومضى الطفل وأبوه يطوي أحزانه مثل خيمة.. كنت أراقب مقفى الاثنين وأنا أردد كل شيء مهيأ للنهايات طعم البيوت.. رائحة الأحباب.. نهضت بعد أن زال همي واختفى غمي.. ما هو همي مقارنة بحجم بئر الأحزان الذي كان بجواري المطل من عين طفل فقد أمه!! رحمتك يا رب.

fouad5azab@gmail.com