-A +A
دانية نزار مدني
أمسكت بالورقة والقلم.... لأكتب كلمات عن إنسان غالٍ قد رحل....

استرجعت كل ما أملك من معرفة لغوية بحثاً عن كلمات تليق بهذا الإنسان وبذكراه.... وتليق بإحساسي تجاهه.... ففتشت في الحروف بحثاً عما يصف إحساسي.... فلم يكن بيد الكلمات إلا أن تتوارى خجلاً أمام بوحٍ كبير عن رجل أكبر من أن يُختصر في نص...


ها هي إحدى الصحف مفتوحة أمامي على صفحة تزاحمت فيها الكلمات المعبرة والعبارات الجميلة التي كتبت عن عمي الراحل غازي مدني.... ها هي الأقلام قد تحركت لتصف وترسم صورة جميلة عن عمي غازي وأخلاقه وحسن سيرته وطيبة قلبه.... وبين كل تلك الكلمات تطل علي صور كثيرة لعمي غازي في مختلف مراحل حياته... يميز تلك الصور شيء مشترك: الابتسامة.

تلك الابتسامة التي اعتدت على رؤيتها على وجهه دائماً منذ أن كنت طفلة وحتى آخر أيام مرضه رحمه الله.... الابتسامة الحنونة الطيبة التي ما إن أطلت علي من صفحات الورق حتى أحسست بحزن كبير على فقدان رجل لن تكرره الأيام....

إن هذا الحزن العميق الذي تزاحمت الأقلام لتعبر عنه لا يأتي إلا من فراق رجل ذي قلب من ذهب.... فبعد الرحيل، أكثر ما يتذكره الناس عن الراحل غالباً ما يكون قلبه وطيبته ووفاءه ومواقفه النبيلة وحنانه....فهذه هي الأمور التي نفتقدها بعد رحيل شخص عن عالمنا مهما كثرت إلى جانب ذلك إنجازاته ونجاحاته.... فحتى وإن تذكرنا الإنجازات فنحن لا نفتقد ولا نشعر بالحنين العارم إلا للقلب الطيب المحب والنفس الطيبة الخلوقة التي مسحت عن جبيننا متاعب الحياة ذات يوم وبثت في قلوبنا السعادة ذات زمن.... وهذا ما كان عليه عمي المرحوم وهذا ما تحركت من أجله كل تلك الأقلام على أوراق الصحف....

فقلبي اليوم حزين.... ليس على فراق الدكتور غازي مدني.... ولا على فراق مدير جامعة الملك عبدالعزيز.... ولا على فراق رئيس مجلس إدارة جريدة المدينة.... ولكن على فراق من كنت أناديه «عمي غازي» ذو الوجه الحنون الذي كان جزءاً لا يتجزأ من طفولتي وجميع مراحل حياتي....

عمي غازي.... الذي أرى في صورته طيبة جيل مضى وحلاوة أعوام قد انقضت.... سأظل أتذكر «بيت عمي غازي» الذي سيبقى دوماً أجمل ذكرى لأجمل أيام.... فقد كان عمي غازي يفتح أبوابه دوماً لاحتضان اللحظات السعيدة.... فأصبح بيته مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بذكريات الأعياد واجتماعات العائلة.... فقد جمعنا عمي غازي رحمة الله عليه عيداً بعد عيد.... فكبرنا وفي قلوبنا حب لـ «بيت عمي غازي» حيث الفرح والعيد و«اللمة الحلوة».

ومرت السنين.... وظل بيت عمي غازي وجهتي كلما احتجت لشيء من الحنان أو للنصيحة أو لدعوة أب حنون..... وظل عمي غازي يجلس في ركنه المعتاد عاماً بعد عام.... يستقبل زياراتي دوماً بنفس الابتسامة الحنونة ونفس الهدوء المريح.... فأجلس إلى جواره أشرب عصير الليمون بالنعناع الذي كان يصر على أن أشربه كل ما زرته.

كان عمي غازي رحمة الله عليه يرحب بنا دائماً بحكاية جديدة وذكرى جميلة يشاركنا إياها.... فينتقي لنا حكايات ومواقف طريفة من الماضي ليقصها علينا...أرى وجهه الآن بعين ذاكرتي وهو يحكي لنا قصصا من ماضيه وتلك الابتسامة المرسومة على وجهه تكشف عن حنينه الواضح لـ «أيام زمان»..... كم كنت أستمتع بكلامه وقصصه.... فلم يقابلنا قط بحكاية محزنة أو نبأ مكدر أو كلام سلبي.... فقد كان كلامه دائماً يحمل روح الدعابة والذكريات الجميلة.....

هكذا كان.... رجلاً كبيراً.... ذا قلب كبير..... فحتى في حزنه وألمه ومرضه بقيت الابتسامة وبقيت روح الدعابة التي لا أذكر يوماً أني جلست بجواره ولم ألمسها فيه.... كنت أخرج من بيته حاملة معي ذكريات حلوة وحكما ونصائح أبوية ثمينة ودعوة غالية فقد كان يودعني دائماً بعبارة «بارك الله فيكي يا بنتي».....

كم كان قلبك جميلاً يا عمي غازي.... كم سأظل أشتاق إليك.... وإلى ركنك الهادئ الذي كان منبعاً للحب والحنان والأمان والحكايات الحلوة.....

رحيلك أحزن قلبي كثيراً....

لن أقول وداعاً يا عمي غازي.... ولكن أقول استودعناك عند أرحم الراحمين يا صاحب القلب الجميل إلى أن نلتقي مجدداً في جنات الخلد بإذن الله حيث لا فراق ولا حزن.