-A +A
هاني الظاهري
قبل أيام تلقيت رسالة طريفة من أحد الأصدقاء تتضمن مقطع فيديو يظهر فيه واعظ بلحية بيضاء وعينين جاحظتين يتحدث لمجموعة من الناس في مكان مغلق يبدو أنه مسجد عن قصة «اللحمة» العجيبة (هذا العنوان من اختياري لها) قبل أن يكبّر ويدخل في موجة بكاء طويلة تتقطع لها القلوب.

قال الواعظ الذي لا أعرف اسمه ولا يشير له منتج مقطع الفيديو إن رجلاً اشترى «لحمة» من السوق وعندما ذهب إلى منزله وطبخها فوجئ بأنها لم تتغير رغم مرور ساعات على وضعها في إناء على النار، فما كان منه إلا إخراجها وقرر أن يشويها على النار مباشرة لكنها لم تتغير أيضا وظلت حمراء كما ابتاعها، فقرر أن يستشير أحد علماء الدين في الأمر ليجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخارقة لقوانين الطبيعة، وبالفعل وجد عالما وأخبره بحكاية «اللحمة»، فسأله ذلك العالم عن مصدرها، فأكد صاحبها أنه ابتاعها من جزار في السوق واتجه بها إلى منزله لكنه في الطريق سمع واعظا يتحدث في أحد المساجد، فدخل بين الحضور واستمع لحديثه واللحمة بجواره، وبعد ذلك خرج واتجه لطبخها في المنزل، فما كان من العالم إلا أن كبّر قائلاً: «أتعرف ما الذي حدث؟ لقد دخلت للمسجد وحضرت مجلس ذكر فأنزل الله رحمته على كل من في ذلك المجلس بما فيهم اللحمة»!


انتهى الواعظ من رواية حكاية «اللحمة العجيبة» وانهار بكاء أمام الحضور، لتتعالى التكبيرات في مشهد دراماتيكي مثير للسخرية يكشف بشكل جلي أن الجهل والاستعداد الذاتي لقبول هذه الأكاذيب أمران شائعان وإلا لما وجد مثل هذا الواعظ أناسا يستمعون لهرطقته ويصدقونها ثم يستخدمون وسائل التقنية العصرية لنشرها في المجتمع دون خجل.

نعرف أن من الفقهاء من يجيز الكذب في سبيل الدعوة إلى الله، لكن الكذب أيضا «فن» له أدبيات وليس بهذه الطريقة التي تكشف عن عقليات طفولية قد تشكل قنابل موقوتة إن تم تسخيرها ضد البلاد والعباد من قبل من له مصلحة في ذلك، ولو كان الأمر يتوقف عند وجود مجموعة من المخابيل يتسامرون بقصص ساذجة في غرفة مغلقة لما شكّل أي أهمية، فالحمقى والمغفلون موجودون في كل زمان ومكان، لكن أن تصبح هذه ثقافة لأطياف واسعة من المجتمع تلتقي في المساجد وتردد التكبيرات وراء كل واعظ يبهرها بحكايات مشابهة لحكاية «اللحمة» فهذا أمر يدق ناقوس الخطر وينبغي أن يُدرس ويعالج قبل فوات الأوان، فهؤلاء شئنا أم أبينا هم الوقود السهل والمتوفر لكل فتنة، ولن تجد أي جهة معادية أفضل منهم للاستخدام، ذلك لأنهم مغيبون عقليا بشكل يفوق غياب عقول السكارى، ما يؤكد أن الجهل أبو الخبائث مثلما أن الخمر أمها، ولا ينبغي أن تكون مظلته «الدعوة لله» على كل حال.