-A +A
عزيزة المانع
لفت نظري ما أشار إليه الأستاذ سعيد السريحي في أحد مقالاته الأسبوع الماضي حول عدم قبول إحدى المحاكم دعوى تقدم بها أحد المحامين ضد داعية أساء إليه بالقول. وكان مسوغ رفض الدعوى أن الإساءة التي وردت، تدخل في إطار (الذم المقبول)!

تصنيف الذم إلى مقبول وغير مقبول، هو ما استوقفني في هذه المسألة برمتها! فجأني أن يكون بين الذم نوع (مقبول)! فقد ظللت عمري كله أعتقد أن الذم بكل أشكاله وصيغه غير مقبول على الإطلاق لدى الناس كلهم، ولا أذكر أني التقيت بأحد (يقبل) الذم، وإن حدث، في حالات نادرة وأدعى أحد أنه يقبل به، فإن ذلك يكون على مضض لاعتبارات خاصة.


هل المراد بالذم المقبول ذاك الذي يسميه البلاغيون (المدح بصيغة الذم)، حيث يصاغ اللفظ في ظاهره يحمل ذما بينما باطنه يحمل المديح كقول: (فتى كملت أخلاقه غير أنه، جواد فما يبقي على المال باقيا)، ظاهر القول ذم بالإسراف، وباطنه مدح بالكرم، لذا يقبله المذموم بل ربما رحب به، فهل هذا هو المراد بالذم المقبول؟

لا أدري لم خطرت ببالي الغيبة؟ ووجدتني أتساءل ترى في أي الصنفين يمكن أن تدرج؟ هل تدرج ضمن الذم المقبول، أم غير المقبول؟

احترت في تصنيفها، في البداية قلت: الغيبة تعد من المحرمات وشبهت بأقبح التشبيهات (أكل لحم الأموات)، فهذا قطعا يجعلها من الذم غير المقبول، لكني ما لبثت أن عدت لأقول إن الغيبة ليست أكثر من ذكر الغائب (بما يسوؤه)، وليس شرطا فيها أن تتضمن تكفيرا أو قذفا، فهل (عدم تضمنها التكفير أو القذف) يمكن أن يهبط بها إلى أن تكون من الذم المقبول؟!

ضاعت مني بوصلة الاهتداء إلى تمييز الذم المقبول من غير المقبول، وتهت في دهاليز البحث عن مواصفاتهما وكيف يختلف كل منهما عن الآخر؟!

أن يكون الذم مقبولا، لا أظن أن هذا أمر يمكن أن يحدث، فلا أحد يمكن أن يقبل بوقوع الذم عليه. هذه حقيقة يعرفها الجميع لا جدال حولها. ولأن الناس يعرفون هذه الحقيقة، أخذوا يطلقون على الذم أسماء وصفات تبعد عنه سمة الكراهة. صاروا عندما يريدون توجيه الذم لأحد، يسمون ذمهم (نقدا بناء) أو (نصحا) أو (إرشادا)، وفي القديم عمد العرب إلى تسمية الأشياء المكروهة بأضدادها الجميلة، تحاشيا لجرح أحد، مثل تسمية الأعمى (بصير) واللديغ (سليم). وتمادوا في حرصهم على تجنب الذم المباشر فلجأوا إلى أساليب بلاغية تلطف منه، فاستخدموا التعريض والكناية، وللثعالبي العالم اللغوي المشهور كتاب حول هذا أسماه (الكناية والتعريض) استعرض فيه أشكال الكنايات وأساليب التعريض التي امتلأت بها اللغة العربية، كل ذلك من أجل تلطيف القول والبعد عن الإساءة عند الإفصاح المباشر بالقول المسيء، فلا شيء مقبولا في الذم.