-A +A
عبدالرحمن الطريري
لم يرض بوتين أن يغادر باراك أوباما البيت الأبيض دون أن يوجه له ضربة قاضية، والضربات في المصارعة دوما ما تترك زرقة حول العين، تشبه ألوان الحزب الديموقراطي في أمريكا وهو حزب الرئيس أوباما.

كانت الضربة أتت عبر ردة الفعل على قرار أوباما، بترحيل 35 دبلوماسيا روسيا من العاملين في الولايات المتحدة، حيث أمهل البيت الأبيض في بيان له 35 دبلوماسيا مدة 72 ساعة لمغادرة أراضي الولايات المتحدة، والترحيل يشمل موظفين في السفارة الروسية في واشنطن وكذلك قنصلية روسيا في سان فرانسيسكو، وهذا في التاسع والعشرين من ديسمبر أي قبيل احتفالات رأس السنة بليلتين.


حيث رد بوتين ببيان قال فيه «لن نخلق مشاكل للدبلوماسيين الأمريكيين، ولن نطرد أحدا. ولن نمنع أفراد عائلاتهم وأطفالهم من استخدام أماكن الاستجمام المعتادة بالنسبة لهم خلال احتفالات رأس السنة. علاوة على ذلك، ندعو أطفال الدبلوماسيين الأمريكيين المعتمدين في روسيا لحضور احتفالات رأس السنة والميلاد في الكرملين».

هذا الرد بهذا الدم البارد والخالي من الانفعالية، حمل رسالة مفادها أننا لن نتعامل معك وأن تسرع هنا وهناك لمحاولة إغلاق العديد من الملفات، أو البحث عن بطولة متأخرة، وأن رد الفعل الروسي مرجئ إلى ما ستقوم به الإدارة المقبلة في البيت الأبيض، ولا أسوأ من أن تكون رئيسا لأهم دولة في العالم لكن تشعر أن قرارك لا أهمية له.

بوتين أيضا خالف توقعات أوباما الذي افترض أن التدخل الروسي في سورية سيكون مستنقعا لروسيا، وأنه سيسمح لها بإنهاك نفسها بنفسها كما حدث في أفغانستان، لكن التاريخ لا يعيد نفسه حيث أثبت بوتين أنه يتعلم من التاريخ جيدا، ويجيد حسن التعامل مع المتغيرات على الأرض، وببرجماتية عالية هدفها مصالح روسيا أولا والتلاعب على أحد أشد مواضع النزاعات إشكالا وتداخلا بين مصالح الدول، ليصبح اليوم الكرملين هو العنوان الأوحد لأي حل سياسي.

بوتين مارس برودة الأعصاب القاتلة أيضا مع تركيا، حيث لم يقم برد فعل انفعالي على إسقاط طائرة سوخوي 24 الروسية، والذي تم عبر الدفاعات الجوية التركية في 24 نوفمبر 2015، رغم الغضب العارم الصادر من جنرالات وزارة الدفاع الروسية ومطالبتهم بوتين برد عسكري صارم، حفظا لكرامة أحد أهم جيوش العالم.

فقد لعب اللعبة بمكر شديد، هذا المكر أدى لإضعاف الناتو خصمه الأول، كما أدى لعصر تركيا اقتصاديا، هذا الضغط الاقتصادي الروسي على تركيا، مع الشعور التركي بالخذلان الغربي وعدم جدية دول الناتو في الدفاع عن تركيا لو تعرضت لأي هجوم روسي، هذه الثمرة أينعت وحان قطافها مع الانقلاب الفاشل في تركيا.

حيث عاد بوتين ليعيد العلاقات بسرعة كبيرة مع تركيا، ويعلن فتح الباب مباشرة للسياح الروس بالعودة إلى تركيا، وكذلك كان داعما حقيقيا لأردوغان ضد الانقلاب، مما زاد من التوتر الكبير بين أنقرة وواشنطن، فسمح لبوتين أولا بإبعاد تركيا عن الولايات المتحدة، وثانيا وهو الأهم سمح لروسيا أن تكون الآمر الناهي في سورية، وأن تكون تركيا تتحرك في سورية في حدود مصالحها غير الضارة بالهدف الأكبر لروسيا.

اليوم نرى مؤتمر إستانا وقبلها معركة حلب، وإيران وتركيا تأتيان للمفاوضات ولا يوجد أي طرف منهما يستطيع خرق الهدنة دون إذن القيصر.

دهاء بوتين وضعف تقدير أوباما للمتغيرات في الشرق الأوسط، سمح له بالعمل في نطاق أبعد من سورية، حيث يدعم اليوم بشكل مباشر اللواء خليفة حفتر في ليبيا، وهو ما يسمح له بدور أكبر في الشرق الأوسط سيتوج بالتأكيد بقاعدة بحرية في ليبيا، وهي أول قاعدة لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، منذ إغلاق قاعدة سيدي براني في شمال غرب مصر إبان حكم الرئيس السادات.

بوتين في ليبيا يتجاوز طموحه توسيع نفوذه في الشرق الأوسط، سعيا إلى تقويض قوة الأوروبيين، الذين يجمعون على دعم خصوم حفتر، بوتين أيضا مبتهج بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأن هذا يضعف توازنات القوى العالمية لمصلحته، ويثبت بوتين أن الانفعال ليس بلغة السياسيين، ولكي تؤلم خصمك عليك أن تتناول وجبة الانتقام باردة.