-A +A
عبده خال
نقل إلينا الشاعر صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي (675 - 750 هـ/‏ 1276 - 1349م) ثلاثة أشياء ليس لها وجود وهي: الغول والعنقاء والخل الوفي من خلال بيتين قال فيهما:

لما رأيت بني الزمان وما بهم ***** خل وفي للشدائد اصطفي


فعلمت أن المستحيل ثلاثة ***** الغول والعنقاء والخل الوفي

ومن عجز هذا البيت أصبغ صفي الدين الحلي الذاكرة العربية بالشكوى وتثبيت قناعة لدينا باستحالة وجود الخل الوفي (الصديق) إلا أن الحياة تقدم يوميا وجودا لهذا الصديق في دنيانا يغمرنا بالوفاء حتى نعجز عن ذكر أفعاله الحميدة الممتدة، وهنا أستطيع القول عن نفسي أن كثيرا من أصدقائي منحوني ماء قلوبهم وطوقوني بأفضالهم حتى عجزت عن ترديد شكري لهم... يحدث هذا مع الكثيرين منا إلا أن الأخلاء الأوفياء من يتابعون وفاءهم لأصدقائهم حتى بعد الممات.. وهذه النماذج من الأصدقاء تجعلنا نصدق الواقع في برهنة وجود الأخلاء أكثر من بيت شعر سقط في مصداقيته أمام تجاربنا الحياتية التي نعيشها ونكون شهداء عليها.

وفي واقعنا الثقافي والفني نماذج رائعة من هؤلاء الأصدقاء يمنحوننا فضلهم من غير انتظار لشكر أو تمجيد لصنيعهم وإنما تحركهم خصلة الوفاء والمداومة عليها بحب، وكأن صديقهم لم يُقبر بعد.

وأجدني أذكر تجربة الشاعر الرائع علي الدميني وما فعله مع صديقه عبدالعزيز المشري (رحمه الله) من متابعة والالتصاق أثناء مرض صديقه حتى إذا مات واصل الدميني وفاءه بإعادة نشر الكتب ومتابعة كل ما يتعلق بصديقه المشري حتى أنه توفي قبل أن يكمل رواية (المغزول) فعمل علي الدميني مع الأخ أحمد المشري على تجميع فصول الرواية وربطها لتظهر للمحبين لفن عبدالعزيز.

وهناك من الأصدقاء من يتناثر وفاؤهم على جملة من الأصدقاء فالأخ هاشم الجحدلي كانت له أدوار رائعة مع الكثيرين من أصدقائه الذين غيبهم الموت، فواصل الجحدلي وفاءه الممتد مع أسر تلك الشخصيات..

وهناك الفنان حسن عبدالله الاسكندراني نجده مع الكثيرين من الفنانين قبل وفاتهم حانيا وحاويا، فحسن يقدم نموذجا رائعا بالسؤال والتواصل قبل رحيل أصدقائه حتى إذا رحلوا كان النموذج في السؤال عن ذرايتهم.

وفي اليومين الأخرين من هذا الأسبوع ظهر نموذجان رائعان للصداقة الفذة، فمع خسارتنا للشاعر الكبير مساعد الرشيدي وبينما كنا نكفكف دموعنا لم نتنبه إلا وصوت الشاعر الكبير فهد عافت يعلن عن وفاء شاعر لشاعر أو صديق لصديق أو أخ لأخيه يعلن استعداده لبذل المال والنفس من أجل تبرئة ذمة صديقه «من كان له على مساعد الرشيدي دين فليحضر وثيقة خلال أسبوع، ومن وثق أو حتى ظن أن مساعد الرشيدي أخطأ في حقه فليسامح أو ليقتص مني، اللفظ باللفظ والأذى بالأذى.. وليسامح جزاكم الله الخير كله».

الله هكذا تكون الصداقة يا فهد، ولا نستطيع سوى الإشادة بهذه الروح وتنمية استطالتها.

وفي مكان آخر فقدنا القاص المبدع صالح الأشقر الذي رحل تاركا ضجيج الأبواب يتعالى حزنا على فقده، هذا الفقد الذي نشط له صديقنا وصديق صالح الروائي والقاص سعد الدوسري صاحب المبادرات القديمة الجديدة في رعاية أصدقائه العديدين فقد كان يتنقل من بلد إلى بلد رعاية لأصدقائه ومع رحيل صالح كان سعد يذكرنا بوفائه الذي يؤكد على صدق الواقع ويسقط أداء صفي الدين الحلي عن استحالة وجود الخل الوفي.