-A +A
عبداللطيف الضويحي
عندما يصدر تصريح من مسئول حكومي، يخلط الرأي العام بين الصفة الرسمية لتصريح هذا المسؤول ورأيه الشخصي. فمهما حاول أن يعبر عن رأيه هذا المسؤول، يبقى في نظر الرأي العام المسؤول الرسمي. هناك فرق كبير بين الصفتين في قضية قديمة جديدة مهمة مثل قضية «هل يكون التعليم للتعليم أم أن التعليم للعمل»؟.

لوزير العمل والتنمية الاجتماعية الحق بالتعبير عن رأيه ومطالبة الجامعات بخفض قبول طلاب الثانوية من 90% إلى 50%، فمنذ القرن الماضي، والجدل يحتدم بين أبرز مدرستين في فلسفة التعليم.


مدرسة ترى أن التعليم حق لكل مواطن فلا يجوز التفريط فيه أو حرمان أي مواطن من هذا الحق، وتنطلق هذه المدرسة من البعد الحقوقي أي من حقوق الإنسان وحق المواطن في اختيار ما يناسبه ويلائم قدراته وميوله من تخصصات.

بينما ترى مدرسة أخرى، أن التعليم يجب أن يكون مكرسا فقط لهدف العمل. وإن أي تعليم لا يؤدي إلى العمل هو هدر للموارد البشرية والطبيعية والوقت.

من حين لآخر تطفو على السطح قضية قبول طلاب الثانوية في الجامعات بين التوسع بها والحد منها. ما طرحه وزير العمل والتنمية الاجتماعية ليس جديدا، وسبق أن طرحه مسؤولون وكتاب وتربويون، لعلنا نذكر الاتفاقيات التي وقعها وزير التعليم السابق الدكتور عزام الدخيل مع عدد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.

في الحقيقة أنا لا أستغرب هذا الطرح فقط، لكنني أتمنى لو أن معالي الوزير يتخيل، فقط يتخيل أن 50% من طلاب الثانوية لم يتم قبولهم في الجامعات، فما هو البديل؟

هل تعتقد يا معالي الوزير أن مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني والتي كنت رئيسها من قبل، هل تعتقد أن هذه المؤسسة لديها الإمكانية الاستيعابية لقبول 50% من طلاب الثانوية كل عام؟ وهل تعتقد أن مستوى معاهد وكليات هذه المؤسسة سيكون أفضل من مستوى أسوأ جامعة أو كلية لدينا؟ بعدما قاله مجلس الشورى عن هذه المؤسسة وعن خريجي معاهدها وكلياتها ذات يوم؟ فأين يذهب إذا الـ 50% من طلاب وطالبات الثانوية يا معالي الوزير فيما لو تعذرتهم الجامعات؟

أرجو ألا يفهم من كلامي بأنني ضد فكرة انخراط الشباب والشابات في التعليم المهني والفني والصناعي والتقني، كما أرجو ألا يفهم مما سبق بأنني مؤيد لإلحاق خريجي الثانوية في الجامعات كما هو الآن.

إنني أعرف أن ما يطلبه سوق العمل المحلي لا يوجد في الجامعات إلا ما ندر، كما أنني أعلم أن البديل المهني والفني والتقني عن الجامعات، لا يمكن أن يكون معاهد وكليات مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني ولا يمكن أن يكون البديل عن هؤلاء وأولئك، تلك المراكز الهزيلة التي تمنحها المؤسسة رخصتها واعتمادها لتخرج العشرات ممن لا يعرفون أبجدية المهنة أو التقنية.

إنما الحل في رأيي المتواضع يكمن في ما يلي لعدد من المشكلات ربما لا يكمن في تلك المشكلات مباشرة:

(أولاً) لا يتم توظيف أي موظف أو موظفة ما لم يكن منتسبا لنقابة مهنية أو عمالية كمرجعية مهنية وحيدة لكل موظفي القطاعين العام والخاص. وهذا يعني ضرورة تأسيس النقابات المهنية والعمالية والتي تضمن المستوى المهني والأخلاقي والذي سينعكس على مستوى العمل بالتزامن مع إجراء الاختبارات المهنية دوريا لكل منتسب والتي تضمن العدالة في الدخل حسب المستوى المهني وليس حسب جهة العمل. فلا يتقاضى محاسب من الدرجة العاشرة مبلغا ماليا شهريا أكثر مما يتقاضاه محاسب من الدرجة الأولى فقط بسبب أن الأول جاء لهذه المؤسسة وذاك جاء لمؤسسة أخرى.

(ثانيا) من الضروري أن تواكب الجهات التأهيلية والتدريبية ببرامجها الاحتياجات المطلوبة في السوق. وتحديث البرامج التدريبية بشكل نصف سنوي حتى يجد كل صاحب موهبة وميول ما يناسبه ليتخصص به. ليس من المعقول أن يرتهن التأهيل والتدريب المهني والتقني لعشرة برامج أكل الدهر عليها وشرب مثل: الحدادة والكهرباء والبناء والميكانيكا والنجارة. بينما تحول كل واحد من هذه البرامج إلى عشرات البرامج في الدول المواكبة لخلق فرص العمل لشبابها بالاعتماد على التخصصات الدقيقة جدا والمركزة جدا.

(ثالثا) ردم الهوة السحيقة بين ثقافة العمل في القطاع الحكومي ونظيرتها في القطاع الخاص، وهذا لا يتحقق إلا بإيجاد وتفعيل النقابات المهنية والعمالية تشمل الجميع وعلى قدم المساواة.

عندئذ وبعدئذ، لا فرق بين خريجي الجامعات وخريجي التعليم المهني والتدريب المهني إلا بالمهنة، هذا بالنسبة لمن يناصرون نظرية التعليم بهدف العمل، أما من يناصرون فلسفة التعليم الجامعي بمعزل عن سوق العمل يقرره الطالب ويختار تخصصه، فهؤلاء يجب أن تكفل لهم السياسات التعليمية حق مواصلة تعليمهم، بمعزل عن احتياجات سوق العمل.