-A +A
عزيزة المانع
منذ أن وجد الإنسان على سطح الأرض وهو يعايش الريح ويحس تأثيرها على حياته، فهبوب الريح يؤثر على الطقس ويتسبب في تغير حالته من حرارة إلى برودة، ومن جفاف إلى رطوبة، ومن صفو إلى ضباب أو غبار، وتغير حالة الطقس يؤثر على مزاج الإنسان ويتسبب في وقوعه أحيانا في الاكتئاب والضيق أو الانشراح والرضا، بحسب ما تكون عليه الحالة الطقسية.

ليس هذا فحسب وإنما أيضا ارتبط هبوب الريح بجلب المطر وإحياء الأرض المجدبة وارتوائها بالماء العذب، وربما لهذا شغف العرب بالريح، واحتفوا بها أيما احتفاء. أخذوا يراقبون سلوك الريح وما يجلبه هبوبها من خير أو شر، وما في حالاتها من التضاد، كالشدة والرقة، والسرعة والبطء، والحرارة والبرودة، والجفاف والنداوة، راقبوا كل ذلك وأخذوا يطلقون الأسماء والصفات على الريح بحسب ما يرونه من حالاتها.


أطلقوا عليها أسماء مثل الجنوب والشمول والسموم والدبور والصبا. والجنوب هي الريح التي تهب من اليمن وأسموها أيضا يمانية، تغنى بها جرير وغيره من الشعراء (وحبذا نفحات من يمانية، تأتيك من قبل الريان أحيانا)، أما الصبا، فهي الريح التي تهب من الشرق من نجد ويسمونها أحيانا (نجدية)، والصبا ريح طيبة، وهي موضع التفاؤل لأنها نصر الله بها رسوله كما جاء في الأثر: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور).

ولأن الصبا طيبة النسيم، صارت سفيرة للعشاق يخاطبونها في أشعارهم، فالصبا تأتي مضمخة برائحة الحبيب فتهيج الذكريات العذبة وتوقد نار الشوق (ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد،،، لقد زادني مسراك وجدا على وجد). ولم تكن ريح الصبا وحدها سفيرة العاشقين، فهناك أيضا ريح (الحجاز) وهي ريح تهب من الغرب فتنعش روح العاشق النجدي كما كان يحدث لعنترة (فبالله ياريح الحجاز تنفسي،، على كبد حرى تذوب من الوجد)، (ريح الحجاز بحق من أنشاك،، ردي السلام وحي من حياك،، ياريح لولا أن فيك بقية،، من طيب عبلة مت قبل لقاك).

وكما تعددت أسماء الريح عند العرب، تعددت أسماء أصواتها، فأسموا كل صوت بحسب اختلاف حالته فقالوا: الزفيف والهزيز والحنين والحفيف، كذلك لاحظوا تعدد أنواع الريح فوصفوها بحسب نوعها، فالحارة، (حرور وسموم)، والباردة (صرصر)، والندية الناعمة، (بليل ونسيم ورخاء)، أيضا لمسوا تباين أفعال الريح فوصفوها بما يلائم فعلها فقالوا: ريح لاقح، إذا كانت تلقح السحاب والشجر، وريح عقيم إذا كانت لا تأتي بالمطر ولا تلقح الشجر، وريح هوجاء وزعزع وعاصف إذا كانت شديدة تثير التراب وتقتلع الأشجار وتطمس المعالم وتمحو الآثار.

احتلت الريح حيزا كبيرا في حياة العرب، فكثر ذكرها على ألسنتهم، وصارت مضرب المثل في تشبيهاتهم وأوصافهم فقالوا عن القوم متى ذهبت قوتهم: (ركدت ريحهم)، وفي القرآن الكريم (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، بمعنى فقد القوة والسطوة. وقالوا عن الهادئ الوقور (ساكن الريح)، وإذا أرادوا وصف أحد بالسرعة في العدو قالوا: (يباري الريح)، ومن أسرع فلم يدرك، يقال عنه (ركب ذنب الريح). أما الإمعة الذي ينساق وراء الآخرين فإنه (يهب مع كل ريح)، والضعيف الذي لا رأي له هو أشبه (بالريشة في مهب الريح)، أما من (هبت ريحه) فتلك البشرى بأن الأمور جاءت على هواه، ومنه النصيحة الخالدة: (إذا هبت رياحك فاغتنمها) بمعنى انتهز الفرص ولا تضيعها.