-A +A
حنان الحربش*
قد يقضي الإنسان حياته كاملة في ملء رفوف مكتبته، يسعد بهذا الحُبّ الذي يجعل من تلك العائلة الصغيرة من الكتب، تكبر مع مرور الأيام والسنين وتحتلّ موقعاً بارزاً في أحد فضاءات الغرفة.. يصنف كتبه بطريقته الخاصة، يرتبها كما يحلو له، يقسو على بعضها ويحنو على الآخر، يخبّئ تلك التي خيّبت آماله ويعاقبها في الأسفل، ويضع تلك التي يدين لها بالفضل في الصدارة كنوع من التقدير والامتنان. إن المكتبة عالم نبنيه بكل اختياراتنا الناجحة والفاشلة، وفي بنيانها الجميل، سنقرأ تاريخ تجربتنا القرائية، إنها التجسيد الأمثل للصيرورة التي تأخذ بأيدينا نحو التطور المستمر، والتغير الذي يمنح الحياة معناها المُفعم بالإثارة.. إنها الذاكرة التي تحتوي تاريخ إنسان متجدد، إنها المرآة التي تعكس أنشطة هذا الانسان المتعدد الأبعاد والوجوه، إنها عالم من الرغبة المتجددة والحب المبتكر. إن مكتبة تنتمي لشخص ما هي «سيرته الذاتية» كما يقول عرَّاب الكتب ألبرتو مانغويل، هي إرثه التاريخي وحضارته المجيدة، ولأن كل الحضارات في فترة ما لابد وأن تنتهي، فإن مجد المكتبة الشخصية لا شك وبكل أسى سينتهي.. *** «بيع مكتبة خاصة» إعلان يتصدّر إحدى الجرائد، لهو من أكثر الأخبار مأساوية لشخص يدرك ما معنى أن يكون للإنسان مكتبة، إن كتاباً قد نعيره لأحد الأصدقاء؛ يذهب بغير رجعة، قد يتسبب بألم الفقد والحنين، فحميمية الرابطة التي تنشأ مع الكتب التي نقرأها تجعلها جزءا من كينونتنا، ما يجعل التخلّي عن كتاب كالتخلّي عن جزء من ذواتنا.. *** وهذا لا يمنع بعض القرّاء من ترك كتبهم على طاولات المقاهي، وعلى مقاعد القطارات لقارئ مُنتظر، وذلك لأن للكتب حيوات أخرى تمتدّ بعدد قرّائها، وفي ذلك صورة جميلة من صور الوفاء للكتب.. لقد ذكر أن بورخيس (الرجل الذي تصور الفردوس على شكل مكتبة) لم يكن يحتفظ بكل كتبه، ربما لأن الكتب ليست أشياء نقتنيها فقط، بل هي أشياء تتملكنا لتمنحنا عوالم بأسرها، ربما لأنها جُعلت للذكرى.. من المؤكد أن أحداً منا لا يريد أن تكون مكتبته نهباً للنسيان، وأن تباع كتبه الحبيبة على الأرصفة، قد يكون الإنسان أوفى ما يكون لكتبه إذ قام بإهدائها لمن يحب القراءة، ولكن الجميل أن تكون هذه المكتبة الخاصة إرثاً تحتفي به العائلة، أن تُزرع محبة القراءة والكتب كالشتائل في قلوب الصغار.. ربما ليس هنالك أجمل من تهدي ما تحبّ لمن تحبّ.. أن تحتفظ المكتبة بحضورها ووجودها وعراقتها كبنيان عتيق.. جدير بأن يبقى جديرا بأن يُحتَفَى به.

* كاتبة سعودية