-A +A
علي العميم
استند باروت في تقرير زعمه بأن حسن البنا يضع الخلاف في إطار صواب وخطأ، وأنه كان يرى أن جماعته هي جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين، إلى أمرين هما: أنه «كان يقبل بالعمل في إطار دستور 1923 الذي صاغه الليبراليون العلمانيون المصريون (الأحرار الدستوريون)، وفصله لـ (جماعة سيدنا محمد) «المتشددة والراديكالية». وتأكيداً لتقرير هذا الزعم رأى في فصله لها، أنه «كان فصلاً من الجماعة وليس من جماعة المسلمين»! في المقال السابق، كنت قد بينت أن عبارة إن الإخوان المسلمين يعتبرون أنفسهم هم المسلمون وليسوا جماعة من المسلمين أو بما معناها، هي عبارة قالها العقاد، مديناً بها حصر البنا وجماعته الإسلام الحق أو الإسلام الصحيح بهم، ونفيه عما سواهم! وليلحظ القارئ أن (جماعة سيدنا محمد) - ويعني بها (جماعة شباب محمد)- صورها وكأنها كيان أو هيئة دينية مستقلة انضمت إلى الإخوان المسلمين، لكن نظراً لكونها (متشددة وراديكالية)، قام بفصل أفرادها من عضوية جماعة الإخوان المسلمين، واكتفى بهذا الإجراء الإداري الحزبي، ولم يرتض لها أن يُصدر بحقها فتوى دينية – وكأن بمقدوره فعل هذا! – تخرجها من ملة الإسلام والمسلمين! والتلبيس في المعلومة هنا كان أن شنع من الخطأ فيها.

هؤلاء كانوا من جماعة الإخوان المسلمين، وهم لم يفصلوا من الجماعة بل انشقوا عنها. وقد حدث هذا الانشقاق عام 1939، وتسموا بعد انشقاقهم بشباب محمد أو جماعة شباب محمد. وهؤلاء كانوا يمثلون داخل الجماعة الجناح الثوري الذي يرفض مبدأ التدرج في الدعوة الذي كان يأخذ به زعيم الجماعة حسن البنا.


يقول الدكتور زكريا سليمان بيومي، صاحب كتاب (الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية 1928 – 1948) – وهو المرجع المعتبر عند الإخوان المسلمين – لم يكن هناك ما يميز منهاج الجماعة عن جماعة الإخوان. ثم لدعم قوله هذا يقتبس فقرة من مقال كتبه الإخوان المسلمين في مجلة شباب محمد، مجلة (النذير)، عام 1945، عنوانه (منهاجنا يحمل ما يجاهد في سبيله شباب محمد ويكافحون بكل قوة لتحقيقه). هذه الفقرة التي اقتبسها من هذا المقال هي: «مطالب التحرير الشاملة ووحدتها والسعي لإعادة الخلافة مشتركة بين الجماعتين، وكذلك المطالبة بإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية ونظرات الإصلاح الداخلي تكاد تكون متفقة تماماً».

ويحصر صاحب الكتاب سبب الخلاف «في رفض المجموعة التي تكونت منها جماعة شباب محمد، التقسيم المرحلي الذي وضعته جماعة الإخوان لدعوتها، وأنهم من الذين تعجلوا النتائج... إلى جانب الاعتراض على وسائل الدعوة وهي أمور أصابوا الحقيقة في أغلبها» والأمور التي يرى مؤرخ الإخوان المسلمين أنهم أصابوا الحقيقة في أغلبها، أظن أنها - كما جاء في موضع متأخر من كتابه - مخالفتهم لحسن البنا في دعواه أن لا شورى في الدعوة، وأن الدعوة ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع. وطلبهم تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه لتكون مسؤولة أمام الإخوان. وإلحاحهم عليه ورجائهم منه غير مرة أن يحرص على طهارة الدعوة بإقصاء كل الأعضاء الذين تشوب أخلاقهم الشوائب. أما الأمر الذي يرى المؤرخ أنهم جانبوا الصواب فيه، وإن لم يصرح به هو في ما أظن هو قولهم: إن من مبادئ الإخوان المسلمين أنه لا نجاح للدعوة إلا بقوة الشعب الذاتية وتوجيه الرأي العام توجيها إسلامياً خالصاً دون الاعتماد على الحكام، ولكن حسن البنا – كما قالوا – حاد عن هذا المبدأ القويم معلناً أن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية، وأخذ يسلك سبلاً متفرقة ما بايعنا الله عليها، متناسياً ألاّ أمل للإسلام فيهم وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله.

ويجب أن نسجل هنا أنهم لم يكونوا صادقين في دعواهم الأصولية التطهرية هذه، فهم صنعوا مثل الإخوان المسلمين، إذ استعانوا بالحكومة ودخلوا بتحالفات معها ومع بعض الأحزاب العلمانية.

ومما يجدر ذكره هنا أنه في الأمر الثالث الذي جاء تحت عنوان (تطهير الدعوة)، ما لبث أن حصل ما كان يخشون منه، فعبد الحكيم عابدين سكرتير الجماعة وزوج شقيقة البنا، استغل رئاسته لنظام التزاور بين أسر الإخوان!- وهي فكرة كان هو مقترحها بدعوى التآلف والتواد والتأخي بين أسر الإخوان- فأغرى بعض فتيات الجماعة ونسائها بحسن حديثه وحلاوته، وببراعته في قص الحكايات وإلقاء الشعر، وكان الرجل شاعراً وخطيباً، فأنشأ معهن علاقات غرامية وصلات جنسية. خلاصة هذه الحكاية أنه بعد تحقيقات دقيقة من لجنة مكلفة بذلك ثبتت عليه التهمة، ونبزه أحد الإخوانيين لتهتكه الجنسي في التقرير المعد، براسبوتين الجماعة، وطالب أغلب أعضائها بفصله، لكن حسن البنا أبى أن يفصله، فانشقت إثر ذلك أسماء مهمة عن الإخوان المسلمين، بسبب رفضه لإحقاق الحق وتطبيق العدل وإنصاف بعض أولياء الأمور المشتكين.

هذه الفضيحة كانت لسنوات محصورة في نطاق أسماء معدودة من الإخوان المسلمين، لكن بعد حادثة الانشقاق هذه خرجت إلى العلن، فهزت سمعتهم هزة عنيفة. وكانت فرصة مواتية للأحزاب المناوئة أن تشهر بهم. إن مما ينقض ادعاء باروت بأن البنا يضع الخلاف ضمن منطلق نسبي، هو قول الجماعة التي وصفها بالتشدد والراديكالية - وهو محق في وصفه هذا - في أحد مقالاتها، وهي تنعى على زعيمها السابق حسن البنا ديكتاتوريته وتعطيله للشورى داخل الجماعة، أنه قال ذات مرة لنفر من جماعته في خطبة عامة: إنه تسلم الراية من رسول الله! تشرح الجماعة قوله هذا بأنه يريد أن يُفهم أعضاء جماعته أنه مؤيد من قبل الرسول، وليس لأحد أن يحاسبه أو يراقبه.

ومما ينقض الشق الأخير من ادعائه، وبما فاض به من تأكيد، هو أنه مع تشدد جماعة شباب محمد الديني وتطرفها السياسي إلا أن البنا في بيان أصدره قال إن الخلاف بينهما هو خلاف شخصي وليس خلافاً على مبدأ!! أي أنه لم يختلف معها في تشددها الديني وفي تطرفها السياسي. وردت هي على بيانه هذا واتهمته بالضعف. راجع الكتاب المذكور للتعرف على تفصيلات الرد.

يفيدنا زكريا سليمان بيومي في كتابه المذكور أن هذا الانشقاق لم يؤثر في تطور جماعة الإخوان ولم تتوقف بالتالي برامجها إلا أن الجماعة قد تأثرت به في بعض الجوانب إذ أصبحت بلا جريدة بعد أن آلت (النذير) إلى جماعة المنشقين. ومما لم ينص عليه زكريا أن الإخوان ظلوا لسنوات دون مطبوعة. فمجلة (النذير)، كان يتولى مهمة الإشراف عليها عضو مكتب الإرشاد محمود أبو زيد عثمان المحامي، ويرأس تحريرها الصحفي والكاتب الإخواني صالح عشماوي. وقد آلت المجلة لمجوعة المنشقين؛ لأن محمود أبوزيد عثمان المحامي وهو أحد المنشقين، كان صاحب امتيازها. كما يفيدنا المؤلف بأن برنامج تنظيم وتدريب الكتائب تأثر الذي أعيد في شكل نظام الأسر. وهذا الجانب لم أفهم ما صلته بانشقاق تلك المجموعة، فالمؤلف -للأسف- لم يقم بإيضاحها. ونعلم من المؤلف أن مناكفتهم للإخوان في سنوات الانشقاق الإخوان كانت شديدة، وأن عداوتهم كانت منصبة على البنا لا على الإخوان، وأنهم في سنوات تالية كانوا يساندون الإخوان في حملاتهم على الكتاب الليبراليين، وأنهم حيناً يتصالحون ويتعاونون معهم، وحيناً آخر يدخلون معهم في تحالفات سياسية. ثم مرة أخرى يعودون للمناكفة والعراك. وأقسى اتهام وجهه الإخوان لجماعة شباب محمد هو تهمة أخلاقية سياسية معهودة في ذلك الوقت بين الأحزاب السياسية، وهي تهمة الخيانة الوطنية، فهم اتهموا زعماءها بأنهم مأجورون وأنهم أخذوا بعض الأموال من جهات أجنبية للوقوف ضد الإخوان! وردت مجلة (النذير) بتوجيه التهمة نفسها للإخوان، وقالت لو كان ذلك حقيقة لافتتح شباب محمد مئات الشعب، ولأقاموا الاجتماعات الضخمة ذات المكبرات العديدة، ولاشتروا القصور الفخمة العالية، بل إن دارهم لا تساوي في أثاثها شعبة من شعب الإخوان. ويكتسب هذا الرد وجاهته، من أنه عرف عنها ضآلة مواردها المالية، ومظهرها الفقير والمتقشف، وكان هذا أحد أسباب قله عدد أتباعها. ومن الملفت للنظر أن البنا في تعاركه مع هذه الجماعة اتبع معها الأسلوب نفسه الذي فعلته معه الأحزاب السياسية لمضايقته وافشاله! هذه الإفاضة في الحديث عن انشقاق جماعة شباب محمد جاءت لإيضاح مقدار التلبيس في معلومة باروت، ولإثبات أنه صور الأمر على غير ما هو عليه، وذلك حينما قال في شرحة التأكيدي أن حسن البنا فصلهم من جماعة الإخوان المسلمين، ولم يفصلهم من جماعة المسلمين، فمنحه بذلك سلطة ذات طابع بابوي، لها حق الحرم الديني، ومع حيازته لهذه السلطة الدينية المطلقة -وفق تصوير باروت التلبيسي- اختار البنا ألاّ يمارس عليهم حقه الديني المقدس!!! وكما رأينا فإنه تارة يتملقهم وتارة يتعارك معهم، مع أنهم كانوا مجموعة صغيرة منافسة، وليسوا في وزنه السياسي والاجتماعي الديني، ولا وزن وثقل جماعته. وكان لا يتورع في تعاركه معهم عن أن يلجأ إلى دناءات صغيرة.

تؤخذ جماعة شباب محمد عادة عند المهتمين بالإخوان المسلمين في سياق الانشقاقات التي أصيبوا بها التي توالت عليهم منذ إنشاء الجماعة، وكان انشقاقهم هو ثالث انشقاق حصل في تاريخهم، تلاه انشقاقات أخرى في عهدي البنا والهضيبي، وفي عهود المرشدين اللاحقين.

ومن الدروس المستخلصة من حادثة انشقاق تلك الجماعة أن جماعة الإخوان المسلمين حبلت بالتطرف الديني منذ سن مبكر وحبلت به في مناخ سياسي وفكري ليبرالي! وكان هذا الانشقاق هو الابن البكر لتطرفها، قد جاء بعده أبناء آخرون في ستينات وسبعينات القرن الماضي. بمعنى أن أسباب التطرف الأساسية تكمن فيها لا في نظام عبدالناصر الشمولي والبوليسي، كما تذهب إلى ذلك الرواية الشائعة وزبدة القول في هذا الشأن أن اختلاف الأبناء عن الأم في التطرف -حقيقة- هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع. نأتي الآن إلى مناقشة الحيثية الأولى في إدعائه المزعوم حول حسن البنا، وهو قوله إن حسن البنا قد قبل بالعمل في إطار دستور 1923. وقد أراد بهذا القول - بالدرجة الأولى - أن يزكي حسن البنا تزكية علمانية. فمن المعلوم أن هذا الدستور الذي صاغته لجنة الثلاثين كان من المنظور العلماني، يعد في بعض مواده دستوراً (تقدمياً).

وكما هو مشهور، تمكن إسماعيل صدقي حين تولى رئاسة الوزارة سنة 1930 من إلغاء دستور 1923. تمكن من إلغائه، وفرض دستوراً جديداً قّيد الحريات وزاد فيه من نفوذ الملك فؤاد. ومع بدء نذر الحرب العالمية الثانية سنة 1935، رأت بريطانيا أنها بحاجة إلى خلق حالة من الأمن والاستقرار السياسي في مصر، و كان هذا لا يتأتى إلا من خلال تلبية المطلب الوطني والشعبي لدى المصريين، بإعادة العمل بدستور 1923، فضغطت على الملك فؤاد أن يلغي دستور 1930، ويعيد العمل بدستور 1923، وهذا ما تم.

حسن البنا زاول العمل السياسي العلني في أواخر الثلاثينات، وكان من شروط مزاولة هذا العمل، وكذلك لتحقيق مكاسب شعبية كان عليه أن يحترم حتى لو ظاهرياً ذلك الدستور. فالرجل في حقيقته لم يكن مؤمناً به، بدليل أن ذلك الدستور الذي منحه فسحة أن يقول ويكتب ما يشاء، كان هو وجماعته لا ينفكون عن شن الحرب على الحزبية أو التعدد الحزبي وعن الدعوة لحزب واحد، ويهاجمون النواحي الليبرالية التي أفضى إليها الدستور. وبحجة تعديله واصلاحه كانوا يبشرون ويروجون لنظام هو لا يتوافق مع جوهره، بل هو متعارض ومضاد له. وهناك شاهد آخر، هو أنه حينما تولى اسماعيل صدقي رئاسة الوزارة سنة 1946، تحالفوا معه وأيدوه، مع أنه كان عدواً لدستور 1923، وعدواً للحريات السياسية، وكان أتوقراطياً. وكانوا – بعد منعه للمظاهرات ــ يده الحديدية التي تنهال على المتظاهرين بالعصي والسكاكين.

بحكم شيوعية باروت السابقة فإنه من المؤكد يعلم عن الواقعة المشهورة التي تتردد في كتب اليساريين والشيوعيين المصريين عند التنديد بتاريخ الإخوان المسلمين التي مفادها أن طلاب الإخوان المسلمين كسروا أبواب جامعة فؤاد من أجل عقد مؤتمر لتأييد إسماعيل صدقي، ولما تمكنوا من عقد المؤتمر في قاعة الاحتفالات الكبرى، افتتح الزعيم والخطيب الطلابي الإخواني، بتلاوة هذه الآية: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد * وكان رسولاً نبياً).

والحق أن هذه الواقعة كانت سوأة كبرى في تاريخ الإخوان المسلمين عند الشيوعين وعند الليبراليين وسواهم من القوى الوطنية المصرية، وقد جاهد الإخوان على مدى عقود طويلة في سترها وفي التمويه عليها بتخريجاتٍ زائفة. وحتى الشورى الإسلامية التي يرى حسن البنا أنها حوت لب الديموقراطية البرلمانية وتوفرت على أركانها هو كان لا يطيق تطبيقها داخل جماعته. والدليل على ذلك أنه كان ينفرد بالقرار، ولا يأبه باعتراضات أعضاء مكتب الارشاد. وكان استبداده هذا من بين عوامل الانشقاق في جماعته. ولا عجب في ذلك فهو- كما حدثتنا جماعة شباب محمد – علّل عدم أخذه بالشورى داخل جماعته، بأنه لم يجد في الإخوان من هو أهل للشورى! ومن هو هذه سياسته في جماعته، فمن المقطوع به أن إيمانه بدستور 1923، كان إيمان تظاهر ومداجاة، وإيمان مرحلي وموقت.

*باحث وكاتب سعودي