-A +A
عبدالمحسن هلال
كلما قرأت أكثر في أدبيات تنميتنا والجهود الكبيرة المبذولة فيها يحضرني بيت بشار بن برد: «متى يبلغ البنيان يوما تمامه، إذا كنت تبني وغيرك يهدم»، مليارات صرفت ومازالت تصرف، ومشاريع شيدت ومازالت تشيد، إلا أن العلة، وإن كان جزءا منها في كيفية الصرف وكيفية التشييد، فالجزء الأكبر والقاصم منها يكمن في بذرة الفساد، هذا الكائن من كان الخفي الذي يشبه فعل مرض السكر القاتل الخفي في الجسم.

تجد الفساد، الكائن الخفي الذي لا يراه أحد برغم تفشيه في البر والبحر، في معظم مشاريعنا العامة والخاصة، تجده في معهد أعد للتدريب والتأهيل، تجده في مدرسة يهمل معلمها تلاميذه، في جامعة لا يخلص أستاذها لطلابه، في وزارة أو إدارة موظف واحد، أو شلته، يبددون فيها آمال شعب وثرواته. الفساد كالذنب لا يراه أحد لكن إذا استفتى المرء قلبه أبصره واضحا كالشمس رابعة النهار، المأساة ليست في انتشار الفساد فهو، كبر أم صغر، ظاهرة عالمية، بل في التعود عليه والسكوت عنه، برغم أن الساكت عنه شيطان أخرس، وبرغم إيجاد هيئات ومؤسسات لمقاومته، وتفريغ رجال للقضاء عليه.


مشكلة الفساد الحقيقية هي وجود وتعدد هذه الهيئات المسؤولة عن مكافحته، لن أكرر دعوتي لضمها في هيئة واحدة، لكني أدعو لتقويتها ودعمها، فهي من الهشاشة أن بعضها يصدر بيانات لا متابع لها، والبعض تحول لمهمة الوعظ والتنبيه، فإن نشط فإنما لتلقي بلاغ لا يحمي مقدمه، وصندوق الشكاوى المدلى عند مدخل كل وزارة يغني عن هدر موازناتهم الضخمة. مراقبة الفساد، في كل دول العالم تعتبر العملية المفصلية للتقدم، الحد منه يعتبر المعبرالرئيس للنهوض، فرضه يفرض انسياب مشاريع تحقق الازدهار، تقويته وشرعنته بنصوص قانونية واضحة ومحددة هو الضمان الأول لتحقيق كل آمال التنمية.

بيت شعر بشار المستشهد به هنا، جاء بين بيتين كليهما معبر ويكتنز حكمة وعظة، ما يجعلني أميل مع من نسب كامل الأبيات لشاعر الحكمة صالح بن عبد القدوس، يقول البيت الما قبل: وإن عداء أن تفهم جاهلا، فيحسب جهلا أنه منك أفهم، والبيت الما بعد: متى ينتهي عن سيء من أتى به، إذا لم يكن منه عليه تندم، وهو بيت القصيد كما يقولون، أن تجعل المسيء يندم، لا تأنيبا من ضمير فهذه نادرة، إنما رضوخ لقانون قائم يجعلها حالة دائمة. نحن أحوج ما نكون لمؤسسات محاسبة بقوانين ملزمة تطبق علنا كحد السرقة، لتحقيق المقصد الشرعي «جزاء له وردعا لأمثاله» فالفاسد سواء بالغش أو الرشى يعتبر سارقا، وهي هنا سرقة حقوق شعب في حياة تليق به ويستحقها.