-A +A
علي العميم
محمد المبارك الذي صنفته ضمن التيار الإسلامي القح، لم يسلط الضوء عليه إلى الآن، بما يتناسب مع مكانته في الفكر الإسلامي في طوره الأصولي، ومع دوره التنفيذي العملي في تحويل مادة (الثقافة الإسلامية) من مجراها الليبرالي الأصلي إلى مجرى أصولي محدث، ابتداءً من كلية الشريعة في الجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً) عام 1954، ومروراً بالأزهر في عهد الجمهورية العربية المتحدة عامي 1960 و1961، وانتهاءً بعدد من الجامعات السعودية، وجامعة أم درمان الإسلامية في ستينات القرن الماضي.

محمد عبدالقادر المبارك من أسرة علمية سورية هي من أصل جزائري، ونشأ في بيئة محافظة متدينة، درس الحقوق في مدرسة الآداب العليا في دمشق وتخرج فيها عام 1935، والتحق بجامعة باريس (1935 ــــــــــ 1938) وحصل فيها على ليسانس الآداب ودبلوم علم الاجتماع. وهو من مؤسسي الإخوان المسلمين في سورية. انتخب ما بين عامي 1947 و1958، نائباً عن مدينة دمشق في ثلاثة مجالس نيابية متعاقبة، وتولى وزارة الأشغال العامة والمواصلات عام 1950، ثم وزارة الزراعة عام 1951. كتابه: (الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية) نشره عام 1969 (ملحوظة: مقدمة الكتاب مؤرخة بأول عام 1968، لكن الكتاب صدر بعد انصرام هذا العام) وتضمن دراسات سبق له نشرها في كتب مستقلة، منها (ذاتية الإسلام أمام المذاهب والعقائد)، وأصلها كلمة ألقاها في مؤتمر لاهور الإسلامي عام 1957، ثم توسع فيها وجعلها بحثاً ألقاه في مدرج جامعة دمشق عام 1962، وطبعه في كتاب في العام نفسه.


ويعني المبارك بذاتية الإسلام تجاوزه – كما يقول – مرحلة الدفاع، وهي ما يعنونها بعنوان (الإسلام في قفص الاتهام)، كما كان الأمر في ما قبل القرن الماضي، وهي أن يقدم الإسلام – بحسب تشبيهه - وكأنه مجرم يراد أن يدافع عنه، وتجاوزه مرحلة التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية، وهي كما شرحها: جاء عهد آخر خرج الإسلام فيه من قفص الاتهام ولكن أصبح يقاس بمقياس غيره أو يقوّم بقيم غير قيمه. فالإسلام صالح لأنه مبني على (الديموقراطية) والإسلام يستحق البقاء والخلود لأنه (متطور) والإسلام حسن لأنه في كذا وكذا من الأفكار. ويعني بذاتية الإسلام التأكيد على خصائص الإسلام الذاتية المستخدمة من مصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة، مع استيعاب مشكلات العصر المختلفة دون جعلها أو جعل حلولها الغربية قائدة ومشيرة لنا.

ومن هذا المنظور أعد كتاب (نظام الإسلام) بأقسامه الثلاثة، وكان الأول في العقيدة والعبادة، والثاني في الاقتصاد، والثالث في الحكم والدولة. وقد كان نشر القسم الأول منه عام 1968.

ومما تجدر الإشارة إليه، إلى أن المبارك يعد أول من دعا إلى أسلمة علم الاجتماع. دعا إلى ذلك في بحث عنوانه (نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع) في المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي الذي عقد في مكة عام 1977. وقبلها كان هو يدرس علم الاجتماع في كلية الشريعة بجامعة دمشق ابتداءً من عام 1958، وفق ما يسميه هو بالتصور الإسلامي للوجود، وكما درسه وفق هذه الصياغة في كلية البنات بجامعة أم درمان الإسلامية في العام الدراسي (1968 -1969).

ومع أني أشرت إلى أنه يعد أول من دعا إلى أسلمة علم الاجتماع - وهذا ما هو متعارف عليه عند الملمين بتفاصيل تاريخ أسلمة العلوم وعند الملمين بتاريخه الأكاديمي - إلا أنه عند التدقيق والتقصي نجد أنه استلهم هذه الفكرة من كتابات الندوي، وبخاصة سلسلة مقالاته التي نشرها في جريدة البلاد السعودية عام 1950، وطبعت في كتاب طبعات عدة. ذلك الكتاب كان عنوانه (كيف توجه المعارف في الأقطار الإسلامية) ثم زاد فيه لاحقاً، وتحول عنوانه إلى (نحو التربية الإسلامية الحرة في الحكومات والبلاد الإسلامية). الفكرة طرحها الندوي عام 1950 لكن على نحو عام ولم يخص علم الاجتماع بذلك. الملفت أن المبارك لا يشير إلى ريادة الندوي في هذا المضمار، ولا إلى تأثره به في سياقات في كتبه تستوجب الاشارة إلى ذلك، ومما يستلفت النظر أنه نادراً ما أحال إلى مؤلفاته مع أن المقام يقتضي الإحالة إليها!

لقد تأثر المبارك بالندوي في الموضوع المومأ إليه آنفاً وفي تنظيره للانتقال من منحى الإسلام الدفاعي إلى الإسلام الهجومي (أو العدواني)، وفي تقسيمه لمراحل تاريخ الفكر الإسلامي الحديث، ولمواقف المسلمين من الثقافة والحضارة الغربية، وفي صياغته الجديدة لمحتوى ومنهج مادة الثقافة الإسلامية. وقد بدأ هذا التأثر في كتاباته من كلمته التي ألقاها في مؤتمر لاهور الإسلامي عام 1952 لكنه - كما قلنا - لم يكن يصرح بتأثره بالندوى ولا بريادته.

ونحن نعرف بهذا الأمر بطريقة غير مباشرة من أحاديث أبي الحسن الندوي الشخصية، فهو حين التقاه أول مرة عند زيارة الأخير الأولى لدمشق أطرى وأشاد بكتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) وعده من الكتب الإسلامية القليلة التي نقلت الإسلام من مرحلة الدفاع ومرحلة التوفيق إلى مرحلة... كما طلب منه تزويده بسلسلة مقالاته في جريدة البلاد السعودية التي لم تكن وقتها منشورة في كتاب. وهذه المقالات (أو الكتاب الذي حمل عنوان: كيف توجه المعارف...) استفاد منها في صوغ كلمته التي ألقاها في لاهور، واستقاد منها في محاضرته التي وسع فيها كلمته وألقاها لاحقاً في جامعة دمشق، وكان عنوان الكلمة وعنوان المحاضرة: ذاتية الإسلام أمام المذاهب والعقائد.

ونعرفه أيضاً من رسالة خاصة بعثها إلى الندوي عام 1964، يقول فيها «... إني لأرجو الله أن يحشرني معكم في مستقر رحمته، هذا عدا ما أشعر به، أو بالأصح أجده بيننا من توافق في الفكر، وانسجام في الرأي في مختلف القضايا، بل من تقارب شديد في أسلوب معالجة الأمور، وإنه تشريف عظيم في اعتقادي إذا أشبهتكم».

وفي رسالة أخرى بعثها إليه من أم درمان (أي أن تاريخها سيكون ما بين عامي 1968 – 1969، لأنه في ذلك العام كان يدرس في جامعة أم درمان الإسلامية) يبوح فيها عن تألمه من قطع أخباره عنه، مع أنه أرسل له في العام الماضي أكثر من رسالة، واعتبر إعراضه عنه من علامات سوء حاله، وشدة تقصيره، وكثرة ذنوبه، وأخبره أنه عاد على نفسه باللوم والتعنيف، لأنه اعتبر توجهه نحوه من علامات رضا الله عليه!

أتم كلامه بقوله: «وهذه والله عقيدتي، لا أقولها مجاملة، ولا تكلفاً، وما كنت أن أصارحكم بها لو لا تألمي من هجرانكم لي، أملاً في أن تكون سبباً لتعطفكم، فليست رسالتي هذه عليكم عتاباً، ولكنها في الحقيقة استعطاف...»!

ثم يورد جملة لعلها تلقي ضوءاً على مسألة تعمده عدم الإحالة إلى مؤلفات الندوي. هذه الجملة هي قوله:

«أخي الكريم!

أرسل إليكم في البريد كتاباً جديداً لكم فيه ذكر (ص 16) عسى أن يكون شفيعاً مقبولاً».

غير خافٍ على القارئ، أن إخفاءه ما أمطت اللثام عنه، كان بغرض ادعاء الريادة والأصالة لنفسه في أطروحته الرئيسية التي ألمحت إليها. وما أمطت اللثام عنه يؤكد وجهة نظري في أكثر من مقال كتبته، بأن الأصولية جاءت إلى الإسلام العربي المعاصر من الإسلام الهندي.