-A +A
نجيب يماني
لم أكد أفرغ من السجال العقيم الذي طرحه طارق السويدان عبر تغريدته التي كتب فيها ما نصه «أيهما تفضّل الأمن مع الذل أم الحرية مع الثورة»، لم أكد أفرغ منها حتى لاحت لي في الأفق بوادر عودة لطائفة من «المحاججين» عرفت في تاريخ المسلمين بـ«الأرأيتية»، عندما فشا علم الكلام، وعرف الناس الفلسفة، فدخلوا إليها من الباب الخلفي، وتميزوا بطرح أسئلة افتراضية في الفقه وعلوم الدين الإسلامي الأخرى، تحمل في طياتها روح المعابثة، وحماقة النظر، ولصق الاسم بهم نسبة للكلمة الافتتاحية التي يبدأون بها أسئلتهم، حين يقول قائلهم: «أرأيت لو أني فعلت كذا..». ومن أمثلة ما كانوا يطرحونه من هذه المعابثات والحماقات؛ أن أحدهم سأل شيخًا قائلاً: أرأيت لو أني كنت متوضئًا، ثم إني هممت بالصلاة، فإذا بي أدخل من فم بعير وأخرج من دبره.. فهل ينقض ذلك وضوئي؟!.

وحسنًا كانت إجابة المسؤول حين ردعه بقوله: عندها لن يكون وضوؤك محل اهتمامنا بقدر اهتمامنا بسلامة خروجك من دبر البعير.


والحال نفسه ترويه الحكايات مع ذلك الذي سأل أبو حنيفة: أرأيت لو أني نزلت النهر لأستحم، أأجعل وجهي تلقاء القبلة أم أستدبرها؟

فأجابه الإمام: بأن يجعل وجهه تلقاء ثيابه حتى لا تُسرق، ويصبح أمر خروجه من النهر محفوفًا بـ«الفضيحة»!!

وهكذا يمكن الذهاب مع هذه النماذج المعابثة والمهدرة لطاقة العقل والزمن في ما لا طائل منه، وكل الإجابات عليها تأتي في سياق النهي الضمني عن الخوض في ذلك، أو السخرية المبطنة لمن يقول بمثل هذه الحماقات، والحال نفسه مع صاحبنا الداعية الكويتي «السويدان» أحد الدعاة المودرن الساعين للشهرة والأضواء وملء شاشات الفضائيات كحال بعضهم الذي يقول: يا أرض انهدي ما عليكي قدي. هذا السويدان ألقمه الجميع من حجارة السخرية والاستهزاء ما يكفيه عمرًا مديدًا من التأمل في مثل هذه التغريدات «الأرأيتية» والتي لا يبتغي من ورائها إلا التحريض والتجييش وإشاعة الفوضى التي يجدون أنفسهم فيها، ولعل أكبر حجر التقمه ذلك الذي أرسله تلقاءه الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، حين قال «ليس له قيمة»، وتلك لعمري قلادة خزي ما بعدها قلادة، وما على «السويدان» من بأس بعدها إن غاب واختفى، واضمحل وانزوى وليته يفعل.

إنّ مثل هذا الطرح الذي يقدمه شخص يَسِمُه الناس بأنه «داعية»، يجعلني أقف طويلاً في مفضيات هذا اللقب، الذي أصبح هملاً بغير ضابط ولا رقيب، سهل الارتداء لكل من أطال ذقنًا، وملأ شاشة، ورفع صوتًا، وتحوقل وتبسمل، واستغفل الأبرياء السذج، والأنقياء في تيه غفلتهم غير الحميدة، فيلبس عنهم «اللقب» بلا مؤونة من علم، ولا زاد من معرفة محيطة ومدركة، وبلا وعي يقود القافلة إلى بر الأمان.. وإلا كيف جاز لـ«داعية» أن يوقف الناس بين خيارين لا ثالث لهما، ويعقد المفاضلة لأيهما كما لو كانا «طفلين سياميين»؛ فإما «أمن يخالطه ذل»، أو «حرية مع ثورة»، وخطل مثل هذا الطرح العقيم أنه يجعل المفاهيم هكذا طلقًا بغير إيضاح مفسر، وهو أمر من صميم عمل الداعية ورسالته، وإن فشل فيه فما أدى رسالته، وجار على تابعيه، فأي معنى لـ«الأمن» في مفهوم شرعة الإسلام، وبما يقوم، وما هي متطلباته، وأي دور يجب أن يقوم به كل فرد لاستتبابه، سواء كان الفرد حاكمًا أو محكومًا.. وفي مقابل ذلك في أي مظهر من المظاهر يتجلى «ذل» المسلم في ظل دولته، وما هي أسبابه، وهل ثمة رابط عضوي بين أن تستظل بـ«الأمن» على شعور كامل بـ«الذل»..

والحال نفسه يجري على الطرف الآخر من معادلة السويدان المطففة، والمنظورة في الربط «الغريب» بين الحرية والثورة، فمن اللازم تحرير مصطلح الحرية، ومتطلباته، وأسباب توطينه، ومنعرجات الوصول إليه، ومفهوم الثورة، لماذا وفيمَ، وعلى من.. ومن يقوم بها، وما هي أدواتها، وما هي غايتها، وكل ما يتعلق بما تنتهي إليه، وما تسفر عنه...

كل هذه الأسئلة وغيرها حري بـ«داعية» أن يقف عندها قبل أن يطرح سؤاله بهذا الخلط المفاهيمي، الذي تتوارى خلفه نوازع لا تحمل السؤال على وجه البراءة، ولا تخلّصه من عوالق الغرض في معرض الاستفتاء والاستبيان العلمي لوجه المعرفة لا أكثر.

نحن مضطرون لأن نحمد وسائل التواصل الاجتماعي على نقلها لنا مثل هذه الترهات المأفونة، فبها وعبرها نعرف أقدار «الدعاة» الجدد، وندرك الخطاب المفخخ الذي يختبئ تحت «لحى» طالت في زمن الغفلة وأخرجت من جوفها خطابات الفتنة، و«تغريدات» الغبن المستتر، والتحريض المتواري خلف عبارات مسمومة تخاطب السذج جهلاً وحماقة.. شكرًا جزيلاً لها لأنها منحتنا فرصة للاستمتاع بعودة «الأرأيتية» وما يصحب ذلك من طرائف الكوميديا السوداء، فما زالت الأيام حبالى، يلدن كل عجيبة!.