عبيد محجب
عبيد محجب






الأرض المتنازع عليها تحولت لملعب ترابي لشباب الحي. (تصوير: فيصل مجرشي)
الأرض المتنازع عليها تحولت لملعب ترابي لشباب الحي. (تصوير: فيصل مجرشي)
-A +A
محمد الهتار (جدة)
في جنوب عروس البحر الأحمر، يقبع أحد الأحياء الذي شكل في ذاكرة الجداويين مكانة مهمة، وبدا الحي المنتشرة حوله أساطير الجريمة، أعمق من تلك الأساطير، إذ يشكل السبيل معلما في تاريخ المدينة التي يتجاوز عمرها ثلاثة آلاف عام. ولد الحي العتيق كضاحية اتخذها البعض في ذلك الوقت مهجعا لهم يبيتون ليلتهم فيها نتيجة إغلاق أبواب أسوار جدة، ومع الوقت تحولت الضاحية إلى مساكن سكنها مختلف الأجناس، وإن كان اليمنيون هم أكثر الأجناس، ومعهم من أبناء منطقة جازان ومنطقة العلا. وقد اتصفت منازلهم بالبناء الشعبي «البلوك والأسمنت والخشب»، وقلة بنيت بناء مسلحا. ويحده شمالا طريق مكة المكرمة القديم، وجنوبا شارع الملك خالد (الميناء - التلفزيون حاليا)، وغربا شارع المخزومي، وشرقا شارع الملك خالد «الميناء»، قصر خزام، ومصلى العيد «المشهد».

ومع الوقت، تحولت تلك الضاحية إلى حي كبير ذي بيوت متلاصقة وأزقة ضيقة، وهذا كان واضحا في جزئه الغربي الذي كان يشهد يوميا -وبالذات يوم الجمعة- اكتظاظا كبيرا من سكان الحي بتسوقهم من «سوق السبيل» التي كانت فيها المطاعم والبقالات وكل حاجات المنزل والملاحم، وما زال باقيا حتى يومنا رغم تعرضه للعديد من متغيرات الزمن بضعف الحركة الشرائية.


سينما الدرج

ولا يزال موقف سيارات مكة موجودا حتى الآن، وإن كانت الحركة فيه لم تعد كما كانت بعد إنشاء محطة للركاب، وكان هذا الجزء في ذلك الوقت متنفسا لسكان الحي بوجود سينما «الدرج»، وسميت بهذا الاسم نتيجة الدخول إليها عبر صعود سلالم من خمس درجات، إضافة إلى وجود مسجد الكيكي الذي ما زال إلى يومنا هذا على وضعه صامدا، وعلى مقربة من المسجد كان بيت الفنان عبدالمجيد عبدالله، بالإضافة الى وجود شرطة المنطقة السادسة.

تميز الجزء الشرقي من «السبيل» بقربه من قصر الملك سعود «قصر خزام»، وشكل شارع بشار بن برد علامة فارقة في هذا الحي، إذ سكنته نخبة من المجتمع في ذلك الوقت من أمراء ورجال أعمال ووجهاء وفنانين ولاعبي كرة، ومقار بعض السفارات. منها قصر الأميرة الجوهرة، قصر الأمير عبدالله بن سعد، فيلا الأمير أحمد السديري، فيلا ابن معمر، فيلا الشيهون، فيلا الحمودي، فيلا عبدالله بن سعد رئيس نادي الهلال سابقا، فيلا رجل الأعمال العمودي، فيلا رجل الأعمال عبدالله بحلس، مقر السفارة النيجرية، والموسيقار عبده مزيد، والفنان محمد السراج، وكابتن الاتحاد سابقا حامد سبحي، ولاعبه جبيزو، وحارس الأهلي ياسين صالح، وعبدالحميد أبا العري مدير مطار الملك عبدالعزيز سابقا.

وشهد الجزء الشرقي من الحي أيضا بازان السبيل «بازان الماء»، ومدرسة سلمان الفارسي التي كانت من أوائل المدارس في جدة، والسفارة الأردنية والسفارة الهندية.

بازان الماء

زيد محجب أحد الذين عاصروا تلك الحقبة وصف البازان بقوله: «من هذا المكان كان سكان الحي يسقون منازلهم من خلال أشياب ستة كانت تتدفق منها المياه، تقف أسفلها براميل حديدية مشبوكة بعجلتين وحمار ويقف أمامها السقا، فيما أنشئ في طرفه ثلاثة صنابير خصصت لتعبئة أصحاب الزفة (صفيحتين من تنك السمن الكبيرة مفرغة ومتصلة ببعضها من خلال أعواد أخشاب غليظة تحمل فوق كتفي السقا)، فيما كان زقر ذو الشخصية القوية مسؤولا عن إدارة العمل بالبازان من خلال غرفة مطلة كان يجلس فيها ما زالت صامدة ويسمى بشيخ البازان، ومع الوقت والتطور أُغلق البازان وبقيت معالمه».

ويصمت محجب قليلا في محاولة لنكش الذاكرة والبحث في أعماقها، ويواصل: «رغم أن شبكة المياه الرئيسية دخلت بيوتنا قبل أكثر من 35 عاما، إلا أننا نعاني كثيرا في هذا الحي من قلة توافر المياه، وفي كثير من الأحيان نستعين بالوايتات». يضحك ويضيف: «ليتهم أبقوا لنا البازان، كان سيخفف عنا القليل من معاناتنا في توفير المياه لمنازلنا».

أرض بيضاء

وفي حي السبيل أرض بيضاء ذات مساحة كبيرة لها قصة تروى بين السكان المحليين، فقد كانت تسكنها مجموعة من الأفارقة، ويقال إنها كانت مملوكة لرجل من أهل المنطقة الوسطى حاول بكل الطرق والوسائل أن يستثمرها لكنه لم يتمكن من ذلك، وعندما شعر بعجزه عن الاستفادة منها تركها لهم، واستمر بقاء سكانها حتى جاء يوم تحركت فيه الأجهزة الأمنية والبلدية لمتابعة مخالفي الإقامة وأخرجوهم من تلك الأرض، ومسحوها عن بكرة أبيها.

تعددت الروايات في تسمية حي بالسبيل، وإن كان الأرجح يعود إلى أن الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- وبعد أن تحولت الضاحية إلى مساكن، أمر بإنشاء بازان ماء لسكانه يرتوون منه، وجعله سبيلا فتحول اسم الضاحية إلى حي السبيل.

فيما يروي عمدة حي السبيل الشرقي خالد الذيابي أن سبب التسمية -حسب ما رويت له من بعض سكان الحي- يعود لوجود بعض البيوت التي كان يسكنها بعض العاملين في قصر الملك سعود «قصر خزام» وحاشيته، وجعلها سبيلا لهم ولغيرهم ممن سكنوا في تلك البقعة.

وبين أن سبب تسمية «المحروقات» يعود إلى أن الموقع كان مخصصا لبيع الكيروسين «القاز» ولهذا سميت بالمحروقات.

وأشار إلى أن الأرض البيضاء شهدت نزاعا كبيرا بين العديد ممن ادعوا ملكيتها، وهي حاليا في أروقة المحكمة. ويختتم بقوله إنه يتمنى أن يشهد هذا الحي تطويرا لشوارعه ومداخله، وأن تتحسن الخدمات فيه، ويجد اهتماما أكثر من سكانه.

فارسي.. بدأ التطوير وتفكيك «تعقيدات» العشوائيات

الإسراع بهدف مواكبة التطور، ومع النهضة العمرانية التي شهدتها المملكة وتحديدا في التسعينات الهجرية، حمل المهندس محمد سعيد فارسي أمين جدة في ذلك الوقت، معول الهدم ومشعل التطور وأعلن تطوير حي السبيل وبدأ في إزالة العديد من البيوت، حتى أن الذين شهدوا تلك الحقبة كانوا يقولون إن المهندس الفارسي كان يسابق الزمن في تطوير الحي، وكان يقف بنفسه على أعمال الإزالة، ولم يكن ينتظر إجراءات التعويض، كان يصرفها فورا بهدف الوصول لمعالجة سريعة لعشوائية الحي وإنشاء جسر الملك فهد «الستين» الذي قسم الحي إلى جزءين غربي وشرقي، وأنشأ الجسر، لكن الوقت لم يسعف المهندس الفارسي في طرح كل أفكاره وخططه لمعالجة عشوائية الحي التي بقيت إلى يومنا، وإن كان الجزء الغربي شهد عند تسلم الدكتور خالد عبدالغني أمانة جدة خلفا للفارسي بعضا من معالجة العشوائية في هذا الحي، عندما شرع بفتح ستة شوارع محاور رئيسية لخلخلة الحي بهدف تسهيل حركة النقل والتطوير فيه بعد أن أزيل 165 مبنى عشوائيا خصص لها مبلغ 56 مليون ريال لنزع ملكياتها. ويبقى الحي مركزا مهما نظرا لقربه من ميناء جدة الإسلامي الإستراتيجي، ومرور طريق «الميناء» على جزءيه الشرقي والغربي، وينتظر ساكنو السبيل وصول عدد من الخدمات، إضافة إلى مطالبتهم بمكافحة انتشار مجهولي الهوية.