-A +A
عبدالله الرشيد
أثارت كلمة فنان العرب محمد عبده التي اختتم بها حفلته الأخيرة بدبي في 16 سبتمبر الماضي، الكثير من اللوعة والشجن في قلوب محبيه، حين خرج عن نسقه المعتاد، مدفوعا بالشوق والحنين، فقال أمام جمهوره المخلص: «إن شاء الله نلتقي في الوطن.. ولا يبقى فننا في المنفى».
هذه الكلمة تعبر في طياتها عن تاريخ طويل من السجال والصراع حول موضوع الموسيقى والأغاني في السعودية منذ عقود طويلة مع بداية الأغنية السعودية الحديثة، وظهور وسائل الإعلام التقليدية. لكن على الرغم من كل العقبات والصعوبات قدم الإنتاج الغنائي السعودي قامات فنية رفيعة على مستوى العالم العربي، على رأسهم فنان العرب محمد عبده، والفنان الراحل «صوت الأرض» طلال مداح.
شهدت الصحافة السعودية أول واقعة سجال وجدل حول الغناء والموسيقى، تزامنا مع تأسيس الإذاعة السعودية، وانطلاق نشاطها الفعلي في مطلع الثمانينات الهجرية، حين اعتزمت إذاعة جدة بث أول أغنية سعودية، أصبحت فيما بعد أشهر أغنية وطنية لاينساها السعوديون حتى اليوم.
بدأت قصة هذه الأغنية قبل أكثر من خمسة عقود حين ذهب الفنان طلال مداح إلى استوديو الإذاعة في جدة عام 1381هـ/‏‏ 1961م ليسجل أغنيته الشهيرة «وطني الحبيب.. وهل أحب سواه» بصحبة فرقة النجوم بقيادة الفنان محمد أمين يحيى. كان التسجيل متواضعاً وحسب الإمكانات الفنية المتاحة حينذاك، لكنها كانت مؤثرة وحققت نجاحاً فورياً وقد اعتبرت أول أغنية وطنية في تاريخ المملكة؛ لأن الإذاعة لم تكن تبث قبلها سوى الأناشيد والابتهالات الدينية، وفقا لرواية المحلل الفني عبدالرحمن الناصر.
هذا التحول المثير في مسيرة الإذاعة الناشئة لم يمر مرور الكرم، فأحدث ضجة تردد صداها في الصحافة، فتكاثرت المقالات بين مؤيد ومعارض، وأصبحت مسألة رأي عام تداخلت فيها تيارات متعددة، وعلى رأسها التيار الديني. ونشطت مجلة «راية الإسلام» في نقاش الموضوع ونشرت مقالات موسعة لمواجهة صنيع الإذاعة، والرد على الأصوات المؤيدة لهذا الاتجاه.
كتب الشيخ زيد بن عبدالعزيز بن فياض بالمجلة ذاتها في عدديها الثاني والثالث الصادرين عن محرم وصفر لعام 1381هـ، مقالاً بعنوان (الأغاني في الإذاعة السعودية) قال في مطلعه: «أثير في الآونة الأخيرة جدل حول الأغاني في الإذاعة السعودية، فمن محبذ للأغاني لأنها بزعمه تسلي وتروح عن النفوس، ووجد هؤلاء من بعض الموظفين استجابة فراحوا يكيلون لهم المديح، ويخلعون عليهم ألقابا ضخمة، وبطولات لا يحلم بها كبار القادة وعظماء التاريخ».
ورغم أن الأغنية الافتتاحية المزمع تسجيلها في الإذاعة كانت وطنية بحتة، إلا أن الشيخ ابن فياض قد وصف هذه الخطوة بأنها طريق نحو بث الخلاعة والمجون، يقول: «لقد تصدى لهم بعض الغيورين للرد على تلك الآراء الخاطئة والمزاعم المضللة، فكتب مسلم غيور في صحيفة الندوة يندد فيها بفكرة إذاعة الأغاني الخليعة، ويوضح أنه لا ضير على الإذاعة السعودية أن تكون الوحيدة من بين إذاعات العالم التي ترفعت عن المجون والخلاعة، بل إن هذا مدعاة للفخر والإعجاب». الشيخ ابن فياض يشير هنا بشكل مبكر لمفهوم الخصوصية التي يجب أن تطبع المجتمع السعودي وتميزه عن غيره من المجتمعات.
لكن في المقابل كتب الشيخ أبو تراب الظاهري دراسة شرعية معاكسة، نشرت على حلقات في مجلة الرائد في العدد 67 من عام 1381، بعنوان (الكتاب والسنة لم يحرّما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها) أكد فيها أن الغناء وآلاته والاستماع إليه مباح، و«لم يرد في الشريعة التي جاء بها النبي عليه السلام نص ثابت في تحريمه البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين الكتاب والسنة، وما سواهما فهو شغب وباطل مردود لا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعاً، فإذا كان الغناء حرم بالعموم لأنه يُلهي عن ذكر الله فكذلك كل مُلهٍ حرام لأنه يلهي عن الفريضة حينئذ، فهذا لا تعلق به لمن أراد أن يتشبث في تحريم الغناء بسبب كونه ملهياً، فكل شيء حسن ومباح وحلال يكون في بعض الوقت ملهياً»، ثم ذكر أنه «إذا قُصد بالغناء والاستماع إليه مجرد الترويح عن النفس والتسلية وتنشيط الأعصاب فليس في ذلك قصد الالتهاء عن ذكر الله فليس بحرام، وكذلك كل مباح إذا قصد به اللهو عن ذكر الله يكون حراماً، وهكذا الغناء لا يكون حراماً إلا إذا كانت النية المتجهة خبيثة، كأن يقصد به الاستعانة على المعصية». وخلص أبو تراب من هذا إلى أن حرمة الغناء لا تتأتى إلا من سبب تتأتى به حرمة غيره أيضاً من المباحات فلا يختلف الغناء في ذلك عن غيره أصلاً. ثم أورد بعض الأدلة وناقشها مستنداً إلى كلام ابن حزم مناقشاً أقوال المانعين، وانتهى أخيراً إلى القول بأن كل ما ورد في هذا الباب من تحريم الغناء وتحريم بيع آلاته فهو باطل مردود والحق خلاف ذلك وهو الإباحة وعدم الكراهية.
إلا أن هذه الدراسة أثارت حفيظة الشيخ عبدالعزيز بن باز فكتب ردا عليه في مجلة راية الإسلام (العدد 2-3)، قال فيه: «لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد بقلم أبي تراب الظاهري، وتأملت ما ذكره في هذا المقال من الأحاديث والآثار وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعاً لإمامه أبي محمد ابن حزم الظاهري، فتعجبت كثيراً من جرأته الشديدة تبعاً لإمامه أبي محمد على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي، بل على ما هو أشنع من ذلك، وهو القول بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة، وعجبت أيضاً من جرأتهما الشديدة الغريبة على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان، ولقد أنكر أهل العلم قديماً على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن سائر المسلمين».
وفي العدد ذاته وصف الشيخ ابن باز خطوة الإذاعة السعودية في بث الأغاني بأنها «دعوة للتأسي باليهود»، إذ قال: «لقد اطلعت على ما كتبته بعض الصحف المحلية عن بعض الكتاب من الدعوة إلى تزويد الإذاعة السعودية بالأغاني والمطربين المشهورين والمطربات المشهورات، تأسياً باليهود وأشباههم في ذلك، ورغبة في جذب أسماع المشغوفين بالغناء والراغبين في سماعه من الإذاعات الأخرى إلى سماعه من الإذاعة السعودية.. ولا ريب عند ذوي العقول الصحيحة والفطر السليمة أن تزويد الإذاعة بالأغاني والمطربين والمطربات من سبل الفساد والتخريب لا من سبل الإصلاح والتعمير ويا ليت هؤلاء الذين دعوا إلى التأسي باليهود وأشباههم في الأغاني ارتفعت همتهم فدعوا إلى التأسي بهم في إيجاد المصانع النافعة والأعمال المثمرة، ولكن ويا للأسف انحطت أخلاق هؤلاء ونزلت همتهم حتى دعوا إلى التأسي بأعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المسلمين عموماً والعرب خصوصاً في خصلة دنيئة من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال».

twiter


ALRrsheed