-A +A
مها الشهري
بناء على قراءة مبسطة وحيادية لواقع المجتمع التركي وطبيعة علاقاته، وعلى إثر فشل الانقلاب حول ما تمتع به الأتراك من التماسك والوحدة الوطنية رغم اختلاف أطيافهم واتجاهاتهم ومكوناتهم الثقافية.
فمن ينظر لطبيعة الناس بين المدن والأرياف في تركيا، سيكتشف نوعا من الازدواج بين التمسك بالموروث الديني العثماني والانفتاح على التجربة المدنية الأوروبية غير المبالية بالمظاهر الدينية، الأمر الذي قد يظهر الهوية التركية للرائي في شكل من أشكال الانفصام، لكننا سنجدها بيئة تحتضن إنسانها رغم هذا الاختلاف، من ذلك برزت وحدة الهوية الوطنية التي لم تسمح بالانقسام، حيث إن المجتمع التركي يحظى بمناخ تعددي يتمثل بشكل أساسي في الممارسة الديموقراطية التي تعطي الحق بالمشاركة في الرأي والقرار كممارسة شعبية تبني في نفسية الفرد مسؤولية تجاه وطنه، وقد ظهر ذلك في نجاح مكالمة أردوغان للشعب بأسهل الوسائل وأقلها تكلفة كونها قد حاكت الجانب المسؤول والمعد وفق إدراك بأهمية المشاركة في الاستقرار والمصلحة الوطنية.

تعتبر محاولة الانقلاب وتمكين الحكم العسكري محاولة قمعية تستحضر بعض أدبيات أتاتورك التي لا تجد حلا للسلطة إلا بطريقة التدخل العسكري، هذا يبرز ظاهرة من العنف والتطرف المتعارض مع الديموقراطية ولكن بملابس علمانية، وهي محاولة انتقامية تريد النيل من حرية المجتمع واختياراته ومن الحزب الحاكم اليميني المنتخب، ولأن العلمانية اليسارية المتطرفة تعتقد أن الدين سبب في التخلف والرجعية وفق سوء تطبيقه في العهد العثماني، ولأسباب تطرفها فقدت الانجذاب الجماهيري القائم على أسس المشاركة، مما حفز الأتراك على حماية وطنهم وحرياتهم من الاختطاف.
استبعدت العلمانية اليسارية التي أقامها أتاتورك جميع الاتجاهات الدينية من النشاط على كافة الأصعدة، وقد كان ذلك قاسيا على شعب مبني على حضارة دينية تاريخا وهوية، ومن الطبيعي أن يستعيد جزءا من اعتباراته وانتمائه في انتخابه لحزب إسلامي يحظى بالشرعية وفق رغبة الأغلبية الساحقة، لكن أحداث اليوم تتمخض من بين ثنائية الهوية المتصارعة حول الدين والعلمانية في تركيا، وبين محاولات انتزاع الأتراك من حضارة الشرق الأوسط الإسلامية والدخول في مدارات أوروبا، من ذلك نجح المجتمع التركي باختيار الموضع المتناسب مع إرادته من خلال اختياره لأطروحات يراها معتدلة وحداثية متجددة، وهذا ما نقل المجتمع لمرحلة تتجرد من التبعية إلى المواطنة في نموذج حديث، الأمر الذي يفسر بأن الديموقراطية كنظام وممارسة لا تتعارض مع الدين الإسلامي في تطبيقاته إنما تحقق أهدافه بالضرورة.
المؤسف أن وحدة الأتراك أنتجت انقساما عند الفاقدين لتجربتهم، رغم أن الأحداث الأخيرة في تركيا تعطي درسا مجانيا لمن أراد أن يستفيد.