-A +A
فؤاد مصطفى عزب
ويعود رمضان لتلمع معه صور لأماكن فقدت وضوحها وتلاشت لتعود وتلمع من جديد في عتمة الذاكرة.. نتف صغيرة تداهمني وأحلام وذكريات وأحاديث لم تكن تنتهي عن مكة المدينة التي كانت تحضننا وتحضن الحياة وأحلام الحياة.. لم تكن مكة شاسعة رغم ما توحي به أحيانا.. أترك اليقين يتسلل إلى حواسي.. أحكي اليوم عن أيام أصفها كمشهد يحدث أمامي الآن وليس قبل نصف قرن تتداخل الصور وتقترب.. بيت جدتي الذي ما أن أدخله في رمضان حتى تهاجمني رائحة الشربة والسمبوسك والفول وزيت الزيتون مع البصل والطماطم والفلفل الأخضر قادمة من المطبخ المتواضع.. وما أن يطلق المدفع رنته المبهجة حتى نتناول القليل من الطعام.. أصلي خلف جدي ثم تطوي جدتي سجادتها على مهل عقب الصلاة تفوح منها رائحة البخور.. ثم تجلس بجواري وتتكلم معي كأنما نحن لوحدنا.. دكة خشبية متواضعة تحيط بها وسائد وأغطية بيضاء طرزت فيها أزهار وشموس وجبال ونخيل وفي حضنها تلك العلبة التي لا تفارقها عندما أكون في حضرتها تلفها بقماش من القطيفة العنابي.. أراقبها وهي تفتحها وأتفحص الحلوى ذات المربعات الصغيرة (مكافأة صيامي) تظل نشوة تلك الحلوى أكثر اكتمالا من نشوة أي حلوى ذابت في فمي.. جدي وهو يحمل غليونه ويضعه في فمه برهة بعد الإفطار وهو يغوص بجسده أكثر في الأريكة ويهمهم بكلام غامض.. رائحة التبغ التركي الفاخر تنتشر كالعطر.. تفوح في أرجاء المكان.. كان يروق لي أن أراقب طريقته في حشو الغليون بالتبغ حين يخرجه بإصبعين من علبة فضية أنيقة ويضعه في التجويف الصغير ويضغطه بلين ويقوم بإشعاله ثم يشيح بنظره بعيدا فيما الأدخنة ترتفع وترسم أشكالا غامضة مشدودة إلى فمه.. قبل أن يتمدد.. لا تزال هذه الرائحة تدوخني.. كم عاما مضى منذ أن شممت ذلك العطر آخر مرة.. لها رائحة جدي نفسها.. كنا نمشط .. الجودرية.. الشامية.. المعلا.. المدعى.. نجول في الأسواق ندخل ونخرج في المحلات التي تصطف على طول الشارع.. المراجيح وصخب الأطفال.. أصوات الباعة.. يتواصل الضجيج في الليل.. كنا نسير طويلا ونركض في الأزقة المتربة مثل أي طفل لا يستطيع كبح جماح نفسه نعود إلى منازلنا وكل مسام أجسادنا معبأة رملا.. سخاء روحاني كان ينتشر في أنحاء مكة.. حشود المؤمنين يتضرعون ويبتهلون.. تنطلق من حناجرهم الأدعية.. تغمرهم الروائح الزكية من البخور والأعشاب العطرية التي يجلبها المعتمرون معهم.. تواشيح وابتهالات بلهجات مختلفة وإيقاعات شجية.. أناس يمسكون بأطراف كسوة الكعبة ويبكون.. ما زلت مأخوذا بمشهد الوجوه المبتلة بالدموع والعرق.. نداءات الاستغاثة والتضرع.. هالات الأنوار تضرب وجوههم.. تشع رائعة من مصابيح تراثية بسيطة في الحرم معلقة في الزوايا.. وجوه نيرة ضارعة.. تائهة في ملكوت الله تلفهم سحابة مباركة.. لغات شتى يتفاهم بها البشر.. تشم اختلاط اللغات بالروائح والعطور والعرق والأطعمة والزهور والتوابل.. تصطدم الأجساد النحيفة بالبدينة والرشيقة بالمتينة والمسنة المترهلة بالمتماسكة.. تعبر كلها عن معنى الحياة ومفهوم العبادة.. حشود مختلفة تتعبد في أماكن محدودة.. نفوس متسامحة.. متآلفة.. متصالحة.. حزمة من الأزهار الجميلة ورحلة عطرة تحملها رائحة رمضان.. يبدو أن المرء إذا ما فقد زمناً يحبه ينقلب إلى حيوان مريض معاق يجتر ذكرياته وهذا حالي ما زلت أجتر تلك السنوات التي مثل كرة من خيوط غزل متشابك امتزج امتزاجاً عشوائياً.. الشوارع والبيوت والشجر والبشر.. وانتهى كل شيء.. أحياناً وأنت تتذكر كل ذلك تشعر وكأنك تمشي على حبل ووقفت في منتصفه.. تدمع عيناي من قسوة الذكرى لتلك الأيام المعاشة من دون أن يكون لها مسمى.. أتذكر كل ذلك ويعتريني خوف عظيم عما يجري بين بعض المسلمين وما ستؤول إليه الأوضاع في الأيام القادمة.. أبدو كمن يثوب في رحلة طويلة مهدودا وبلا جلد كلما ظننت أن الأرض أصبحت قريبة فإذا بالهوة تتسع.. أتأمل هذا العري.. ليس ذلك العري الجسدي إنما عري الروح في غفلة منا لتظهر التشوهات والنزاعات الوحشية والاختلاف.. وأتساءل أين اختفت كل تلك الشموس الرائعة.. لماذا تحول كل ذلك إلى محفزات للبطش والشك والتخوين والتكفير والتفجير.. يا للمفارقة!!.