-A +A
عبدالله الرشيد
تروي كتب الأثر أن عمر بن الخطاب مر يوماً برجل يتغنى، فقال له: «إن الغناء زاد المسافر». يعلق الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود -مفتي قطر السابق ورئيس محاكمها الشرعية- على هذه الرواية قائلا: «بغض النظر عن صحة هذا الأثر أم لا، فنحن لسنا مقلدين، بل نبحث عن الحق في مظانه ثم نقول به، فإن الغناء للمسافر مباح وليس بحرام، بل الغناء مباح كله للمسافر وغير المسافر، وضرب الطبل عليه ونحوه كله مباح.. لأن هذا من لهو الدنيا الذي ذكره الله في كتابه (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو)».
رغم أن مسألة الغناء والموسيقى والمعازف تعتبر من المسائل الخلافية الاعتيادية، مثلها مثل كثير من المسائل الفقهية التي تُطرح في كتب الفقه، ويتداول الفقهاء فيها الرأي بين محلل ومبيح أو كاره، وكل صاحب رأي يستعرض أدلته، ويرجح قوله، ويرد على آراء مخالفيه دون تشنيع أو استنكار، فالآراء بتعددها في المسألة ذات وجهة سديدة وأدلة قوية. إلا أن قضية الموسيقى والمعازف تضخم حجمها من مسألة خلافية فقهية، إلى مسألة أصبح يُحكى فيها الإجماع، وكأن الموقف منها بات يقارب مسائل الاعتقاد، فما السر في ذلك؟

ربما يعود سببه إلى صورة الشاب المتدين التي دأب الخطاب الصحوي على رسمها منذ وقت مبكر، فأثر ذلك في الحالة الشرعية، ومنه تسلل إلى فقه الأحكام والسلوك. كانت العلامات الفارقة التي تحدد المسلم العاصي -وفق التصور الصحوي- تتمحور حول صفات محددة، من أشهرها (حلق اللحية، شرب الدخان، إسبال الثياب، سماع الأغاني)، ولذلك تكون تذكرة الانضمام الفعلي إلى ركب «التدين» والصحوة بنبذ هذه الصفات والبراءة منها، ومن ثم إعفاء اللحية، والاقلاع عن التدخين، وتقصير الثياب، وترك سماع الغناء. ولك أن تراجع قصص التائبين الكلاسيكية تجد أن المعاصي المقصودة في مجملها تدور حول هذه الأفعال.
مع مرور الوقت أصبح حكم تحريم هذه الأفعال أشبه بالمقدسات التي لا يمكن الجدال حولها، ولا يتصور اجتماعها أو وجودها في شخص متدين، فكان من الطبيعي أن تضغط السطوة الاجتماعية على الحالة الفقهية فيصبح القول بما يناقضها، أو حتى الإشارة إلى أنها من المسائل الفرعية الجزئية الهامشية أمراً مرفوضاً، ومثارا لغضب ديني واجتماعي. والغريب أن أغلب من يدافعون عن حكم تحريمها هم الفئات المحسوبة على غير المتدينين، الذين يمارسون هذه الأفعال واعتادوا عليها، ويصنفون لدى الخطاب الصحوي بـ«العصاة»!
مما يشير إلى خروج مسألة حكم الغناء والموسيقى من طبيعتها الفقهية الاعتيادية إلى حالة وسطوة اجتماعية، هو خوف بعض العلماء أو الدعاة من التصريح برأيهم، والتهرب من الإجابة، أو تقديم إجابات ملتوية جداً لا يؤخذ منها حق ولا باطل، مع أنهم يقولون رأيهم المخالف في آراء فقهية أخرى أكبر وزناً وأشد أثراً.
الأغرب والأعجب حين يصبح القول بإباحة الموسيقى سبيلاً لجرأة السفهاء والغوغاء على القائل، فيتحول الأمر إلى سخرية واستهزاء وتعيير له بسبب قوله، وذنبه أنه رجح رأياً في مسألة خلافية قوية انقسم حولها العلماء الأقدمون!.. إنه مشهد بائس لا يمت للخلاف الفقهي المحترم بأي صلة.
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، وهو ابن المدرسة الوهابية الحنبلية، الوفي لتراث ابن تيمية، وتلميذ الشيخ محمد بن إبراهيم، كتب رسالة قصيرة بعنوان (الغناء وما عسى أن يقال فيه من الحظر أو الإباحة)، قال في مطلعها: «لقد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا وأكثروا القول فيه بل كتبوا فيه المصنفات، واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من الأحاديث في هذا الباب، ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما الحق الجدير بالاتباع».
أورد الشيخ أولاً أدلة القائلين بتحريم سماع الأغاني، ثم قال: «وقد رأيت أنه لم يصح من هذه الأحاديث، إلا حديث (يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، مع ما قيل في إعلاله».
بعد ذلك أورد أدلة القائلين بالإباحة، ومنه حديث الجارية التي جاءت للرسول عليه السلام حين عاد من بعض غزواته وقالت: «إني نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك الدف وأتغنى»، فقال: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا»، فجعلت تضرب وتتغنى.
بعد استعراض أدلة الفريقين رجح الشيخ ابن محمود أدلة القول بإباحة الغناء، وقال: «رأيت في أحاديث الإباحة، إباحة العزف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا سيما أصوات النساء، لولا النص الصريح بالرخصة، وتكراره في الأوقات التي جرت عادة الناس بتحري السرور فيها، كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة مرجحة بصحتها، وضعف مقابلها ونكارته، وبكونها على الأصل في الأشياء وهو الإباحة، وبموافقتها ليسر الشريعة وسماحتها وموافقتها للفطرة».
يعزو ابن محمود سبب شيوع تحريم الغناء إلى طبع العلماء الزهاد الذين رأوا انصراف الناس نحو الغناء والمعازف، والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين، «ولهذا رأيت كثيرًا من الأئمة العلماء الزهاد قد شددوا النكير على أهل اللهو لما كثر وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها، حتى جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد، حتى حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا، وسماع آلات اللهو جميعها، إلا طبل الحرب ودف العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يُطرِب، وأنه غير دف أهل الطرب».
اختتم الشيخ ابن محمود هذا الفصل بكلام للإمام الشوكاني في (نيل الأوطار)، واصفاً إياه بأنه أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في مسألة الغناء والمعازف.
يقول الشوكاني: «وقد اختُلِفَ في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه (السماع) أن عبدالله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسًا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي. وحكاه صاحب الإِمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي، هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر».