-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لندن تكاد تكون منزلي الثاني، أذهب إليها حيث هناك فرع للشركة.. أحمل إليها أكثر من مرة في العام حقائبي المتخمة بالرحيل ما زلت أفرح بأن أقضي أطول فترة ممكنة في هذا الركن من الدنيا حيث يتلاشى الوقت ويقصر العمر.. تظل لندن مهما تقلبت الفصول قصيدة أليفة.. أتعامل في الشركة مع عجوز أسكتلندية شوه العمل جمالها قصيرة شقراء كالتين المطبوخ تجر قدميها المرتخيتين كجناحي نسر عجوز أنهكه الزمان وهي طيبة دائما تغدق على المكان هالة من المرح.. تعيش أيامها كوردة يابسة في كتاب بعد أن توفي زوجها وتركها لا ابن ولا حفيد.. مازحتها يوما عن مصير قلبها الأشقر أجابتني بابتسامتها التي تفقس بها قوس الكآبة أنها تركته في الخزانة مع الثياب وأواني البيت بعد أن تركها «جف» زوجها ودعتها كالعادة حاملا حقيبتي وجسدي فقد كان يوما طويلا من العمل المرهق الذي فرض نفسه على جميع العاملين في الشركة كان يوما أحسست فيه أنه تعدى حدود الساعات اليومية على حائط الوقت.. مضيت للخارج كطليق التعب أستقبل هواء باردا وتسري في أطرافي لذعة برد خفيفة.. توقفت أمام العمارة المقابلة للشركة والتي تحولت إلى ورشة عمل خرسانية وبناء وتكسير وإضافة وإلغاء لأعقد ربطة حذائي سمعت صوت قطة حائرة كانت تحتمي ببقايا هذا المبنى وتتدثر بالأحجار المتبقية من قسوة البرد كانت جائعة أخرجت من حقيبتي ساندوتش أحمله معي دائما استعدادا لأي هجمة مباغتة «للسكر» الذي أحمله هو الآخر معي منذ أن كنت طفلا اقتربت منها وقدمت إليها محتويات الساندويتش وكان ذلك عربون صداقة صرت بعدها أمر على هذا المبنى كطفل كبير ودع الستين أترك لصديقتي اللندنية زادي ومع الأيام صار بيننا عيش وملح وميثاق جميل وموعد ولقاء وصار لتلك القطة في قلبي مساحة تقوقعت فيها.. ولسبب ما أحسست أن هذه القطة تغرق في وجداني غير تاركة حيز فراغ واحدا وقبل أن أترك لندن بأيام اشتد البرد في تلك المدينة الأمر الذي كشف عن مشاكل مفاصلي أخذت لها حقنة في المكتب فقلت بنسبة كبيرة داعبتني العجوز الأسكتلندية مداعبة ماكرة وهي تشاهدني أعطي نفسي الحقنة بقولها آن الأوان أيها العجوز أن تعود إلى مكان إقامتك ولا تعتمد على مهارتي التمريضية قلت لها أنا عائد لكن سأمر على صديقتي لأطمئن عليها فشمس لندن اليوم ميتة لا تبشر بالخير وانطلقت أتلوى في أزقة لندن أصغي للرذاذ وحبات المطر الخفيفة ذهبت إلى المبنى تلمست الفراغ لم أجد صديقتي دعابة لم أتعودها منها صرت أبحث عنها بشغف تجمدت وأنا أبحث عنها وفجأة ظهرت وهي تحمل مولودا في فمها وتلقيه بين قدمي بعد أن أمنت لي وتأكدت من حسن معاملتي لها كـ أم كانت عيونها السنجابية وفروها المبتل وجسدها المرتعش المرتبك وصرخاتها المكتومة تصب في قاع روحي كان كل مواء منها يقول لي خذني معك وطفلي كانت تخاطبني بانكسار وتوسل الروح الفارة من الجسد كانت تتمسح بي وتحك أطرافها بسترتي الصوفية كشال من الحنان ذكرتني بأرذل العمر عندما ترتفع أصواتنا وتتهالك قواتنا تفجرت مشاعري كحبوب الذرة في المقلاة وما هي إلا لحظات إذا بي أحمل القطة وطفلها في يدي بوداعة وأنا بكامل قواي القلبية إلى حتفهما الجميل حيث أقيم.. في اليوم التالي أخبرت العجوز بأمر صديقتي وابنتها كان نهر كلامي عميقا عنهما وانتهى بمحاولة غبية ورجاء وتوسل أن تتبنى العجوز صديقتي وابنتها واحترمت العجوز جنوني وإنسانيتي حملتهما مني وهي تسألني هل أطلقت اسما على الأم قلت لها بلا تردد «ياسمين» اسم زوجتي وحفيدتي ضحكت قالت لي سأطلق اسم «جف» على الابن. قد يقول قائل ما لنا وما لهذه القطة وابنها؟ وأقول إنني ذكرت هذه القصة لأثبت لكم أن بعض الحيوانات أصبحت أحن على أولادها من معشر البشر الذين يرمون مواليدهم أمام أبواب المنازل والمساجد للتخلص منهم أو يخفونهم في حاويات النفايات تخلصا من مشكلة أو فضيحة أو ينبذونهم في مطاعم وحيدين بعد أن يتسللوا في غفلة منهم أو يستخدمونهم كسلعة يقايضون بها الأسر الميسورة الحال على حضانتهم والاهتمام بهم أو يستغلون ضعفهم وقلة حيلتهم وعجزهم فيقومون بتعذيبهم واحتقارهم والإساءة إليهم يركلونهم بأقدامهم ككائنات زائدة على الحاجة محولين تلك الكائنات الرقيقة من أطفال معافين إلى أطفال معاقين مشوهين لا بل ووصل الحد ببعض هؤلاء الجلادين الذين يعيشون في أكبر مساحة من البشاعة إلى أن يطفئوا السجائر في تلك الأجساد الرخوة الطرية وبدم بارد وحواس مقتولة ومن تلك الأزهار ما لفظت أنفاسها بين يدي تلك المخلوقات الديناصورية البشعة هذا ما تقوله صفحات الصحف حول مليشيا إبادة الزهور وتشهد عليه من أفعال تثير القشعريرة في الروح والجسد في الوقت الذي تحرص الشعوب المتقدمة على مراقبة هذه القلوب البريئة بكاميرات القلب بل يعطونهم حنانا مضاعفا ويبلون ريقهم بالحلوى ويمنحونهم أزهارا وفراشات وأكواز ذرة وفطائر محشوة بعسل المستقبل!!