-A +A
جميل الذيابي
أعلن ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز «رؤية المملكة العربية السعودية 2030» التي تنقل السعودية إلى ضفاف تحول عميق الغور، بعدما ظلت على مدى ثمانية عقود تعتمد على المداخيل النفطية فقط، التي ظلت تتأرجح بين ارتفاع وهبوط، يرتفع ويهبط معها عجز الميزانية، وتتأثر بذلك جميع أوجه الحياة، والتنمية، ومعيشة السكان. وهو تحول يبني لبنات جديدة وخريطة طريق تنموية ستسهم في كبح نسب البطالة وإيجاد مصادر جديدة للدخل، يسقط عنها انتظار العائدات النفطية، وهي بلا شك خطوة جريئة، من مملكة قوية وأمير شاب طموح، إذ إن الاقتصاد المعتمد على النفط اقتصاد «غير منطقي»، والمنطقي أن تعود السعودية إلى عهد التصنيع، والتجارة، والصادرات غير النفطية، ومساهمة المواطنين والمقيمين في ضبط إيقاع الاستهلاك والنفقات والادخار.
كان الأمير محمد بن سلمان يدرك منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية العامة أن طريقه لن يكون مفروشاً بالرياحين والورود. فأمامه أعداء النجاح، المنصاعون للبيروقراطية، الممانعون لكل جديد. وكان أشد إدراكاً للعقبات والعراقيل التي ستواجهه، لأنه ظل منذ ما قبل تسنمه المسؤوليات الحكومية يحلم بالتغيير، ويعشق تحديات الإصلاح. «الإصلاح والتطوير والتحول».. هذه الكلمات السحرية المفعمة بتجاوز العقبات والتحديات بروشتة العمل الجاد الذي يتلمس طريقه الأمير محمد عبر التطبيق والتنفيذ الدقيق لرؤية وطنية طموحة وعميقة.

كان التحول الوطني هاجسا اعتمل بذهن الأمير محمد بن سلمان منذ اليوم الأول لتسنمه رئاسة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية. والواقع أنه ليس صحيحاً أن هبوط أسعار النفط هو الدافع الأساسي وراء الفكرة؛ إذ إن عجز الميزانية يتسبب فيه أيضاً الهدر غير المبرر للنفقات العامة. كما أن سياسة الإعانات الحكومية كانت بحاجة إلى تصحيح «جذري»، يعيدها إلى مستحقيها من ذوي الدخل المتوسط والمحدود، من أيدي الطبقة الغنية التي كانت تستفيد منها بقدر أكبر.
ونهج «أمير الألفية» -كما أطلقت عليه صحيفة واشنطن بوست الأمريكية- لا يحبذ الاستحواذ، والاستئثار بالقرار، بل عنده أن الأمور تستوي على محك الجدوى والدراسات، وفرق العمل، والمستشارين الأكفاء، والشباب المتطلع لخدمة بلاده، ثم بعد ذلك تخرج الأفكار بعد صوغها بطريقة عملية، تتضح فيها الأهداف والمقاصد، لتعرض على ورش العمل، ليتناقش المسؤولون مع المواطنين، وأرباب المهن المتخصصة، قبل أن تخرج إلى فضاء الوطن، ومنه عبر الأثير إلى أرجاء العالم.
يدرك الأمير محمد بن سلمان أهمية الشفافية بالنسبة إلى الاستثمار، سواء أكان استثماراً سعودياً في الخارج، أم استقطاباً لمستثمرين أجانب في الداخل. ولا شك في أنه لاحظ بعد توليه الإشراف على شركة «أرامكو السعودية»، أن أكبر شركة نفطية في العالم لا تخضع لأي معايير متعلقة بالشفافية، ومن هنا جاءت فكرة بيع نسبة ضئيلة جداً من أسهم أرامكو، في اكتتاب عام، حتى تصبح الشركة مدرجة في السوق المالية، خاضعة لقواعد الحوكمة التي تنص عليها القوانين السعودية والدولية. ومن المؤكد أن ذلك سيسري، بموجب الرؤية الجديدة لمستقبل المملكة، على بقية الشركات السعودية العملاقة التي تعتبر جواهر في تاج المنظومة الحكومية. كما تتضح شفافيته وجرأته لمواجهة الواقع عندما تحدث عن وجود فساد في وزارة الدفاع، وفشل في وزارة المياه، وضعف في عمل هيئة مكافحة الفساد.
ومن الواضح بحسب أفكار الأمير محمد بن سلمان -التي عبر عنها في مقابلتيه الشاملتين مع مجلة «ذي إيكونومست» البريطانية، ووكالة «بلومبيرغ» الأمريكية- أن القطاع الخاص الذي ظلت الدولة تغدق عليه العطاء، وتختصه بتنفيذ المشاريع، يجب أن يرتقي إلى مستوى متطلبات السعودية في ما بعد عصر النفط. فكثير من مؤسسات الدولة التي ستتم خصخصتها يتطلب عقودا غير تقليدية، كالتي اعتادها القطاع الخاص بعدما تمت خصخصة شركة الاتصالات السعودية (2003)، وشركة معادن (2008)، والبنك الأهلي التجاري (2014). المطلوب وفقاً للرؤية الجديدة خصخصة مؤسسات خدمية، لكل منها متطلبات إنفاقها الرأسمالي الخاص بها، وأهميتها الإستراتيجية. ويتوقع أن تشمل الخيارات المتاحة للشراكة بين القطاعين العام والخاص خلال الفترة القادمة أنماطاً من «عقود الخدمة» التي تتم بموجبها الاستعانة بالقطاع الخاص لتوفير خدمة بعينها Outsourcing في وحدة تملكها الحكومة، وسيكون مطلوبا من القطاع الخاص تأدية تلك الخدمة طبقاً لمؤشرات الأداء الرئيسية KPI التي ستطبقها الدولة على وزاراتها ومؤسساتها.
وبين الأنماط الجديدة المتوقعة عقود الإدارة التي تنطوي على تكليف القطاع الخاص بإدارة وتشغيل خدمة عمومية كانت تتعهدها الدولة. ومنها أيضاً عقود الإجارة التي تتولى بموجبها الشركة الخاصة المسؤولية الكاملة، والمخاطر طبعاً، لتقديم خدمة محددة. كما أن هناك عقود التنازل، وعقود BOT. وجميعها فرص وخيارات تتطلب أن يؤهل القطاع الخاص نفسه لتحمل تلك الشراكة مع القطاع العام.
أما بالنسبة للقطاع العام، فمع بدء تنفيذ الرؤية الجديدة للمملكة سيصبح القطاع العام أمام تحدي الأداء الأمثل، في ظل ضغوط الشفافية، والمراجعة المتمثلة في مؤشرات الأداء الرئيسية، التي لن تغيب عن رصدها أصغر الهفوات والأخطاء والتقصير. وهو تحول كبير وجذري في أداء المنظومة الحكومية لم يشهد له مثيلا على مدى العقود الثمانية الماضية.
بيد أن التحول الاقتصادي، والحوكمة، والتوجيه السليم الجديد للثروة السيادية سيكون منتقصاً إذا لم يواكبه تحول اجتماعي، وهو الدور الذي ينبغي أن يقوم به المجتمع من تلقاء نفسه، ليتحمل أفراده من أبناء الوطن المسؤولية، وينبذوا القيود التي تشدهم إلى الترف الكاذب، والعصبية، والحنين إلى ماضي الوظيفة المريحة مضمونة الاستمرار من دون إنتاج فعلي. وهو ما يجب أن تلعب فيه الوسائل الإعلامية، خصوصاً الصحافة دوراً قيادياً وريادياً، فضلاً عن مؤسسات التنوير الأخرى، كالجامعات، والمؤسسات التعليمية التي يجب أن تعنى بتطوير المناهج لتستوعب روح التحول الوطني ورؤية المملكة 2030.
والأكيد أن تاريخ 25 أبريل، سيبقى في الذاكرة يوما مشهودا، والسعوديين سيمدون أيديهم لمحمد بن سلمان وهو يتولى هذه المسؤولية الجسيمة، وسيقفون معه صفاً واحداً من أجل مواصلة المسيرة لوطن آمن رخي قادر بأبنائه على سد الثغرات، وملء الشواغر، وتلبية الحاجات، وحماية مستقبل البلاد.