-A +A
إبراهيم إسماعيل كتبي
في الإنشاءات أكثر ما نعتني به (الأساسات) ولها مواصفات وشروط وإشراف هندسي ومتابعة للمقاول، هذا ما نفعله في بناء الحجر، فماذا عن البشر والأساسات التي تبنى عليها عقول الناشئة؟ وهل حقا نستفيد من الثورة المعرفية الهائلة في بناء العقل وثقافة تطويره لدى الطفل وليس التقليد والتلقين؟ وكم ننفق على العقل، وكم على المعدة طعاما وعلاجا؟!
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بالعقل وكرمه به عن سائر المخلوقات، والإنسان يحقق بمفاتيح العقل ما كان خيالا قبل عقود، وما لم يخطر على بشر في الأزمنة السحيقة، ولا يزال الإنسان يكتشف القليل من أسرار الكون اللا متناهية بعظمة الخالق، وتبارك عز وجلّ في قوله تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
في العالم المتقدم يتكاتف دور الأسرة مع التعليم وكل المجتمع ومؤسساته في بناء العقل منذ نعومة الأظفار إلى جانب الأخلاق، وهذا ما حرص عليه اليابانيون وغيرهم، لهذا حققوا معجزة التقدم في ابتكار وإنتاج أحدث التقنيات وأجود المنتجات، يعني بمفهومنا (أصلية) وهذا حال دول متقدمة كثيرة تتنافس في التقدم وخدمة البشرية بالعقل ومفاتيح العلم.
بناء العقل مبكرا في تلك الدول قصة طويلة تستحق الدراسة والاستفادة منها، أما لماذا الأخلاق؟ فلأنها قيم عظيمة يحترمونها بمفهومها الشامل. ولنأخذ مثالا بسيطا من اليابان وغيرها، فقد حققوا تقدما مذهلا في صناعة القطارات، وفي الوقت نفسه لديهم دقة مذهلة في مواعيد رحلاتها، وهكذا كل حياتهم عنوانها الدقة في المواعيد والإنجاز.
وبناء العقل في تلك المجتمعات يعني حالة استنفار في الأسرة تجاه طفلها، والمجتمع بمؤسساته العلمية والتربوية، وحتى ألعاب الأطفال ليست عبثا بل تصب في هذا الهدف، والتعليم الجامعي ليس غاية الجميع ولا تدرك بسهولة، كما أن الطريق إلى العمل ليس مفروشا بالورود وزهور التمنيات والأحلام، وإنما معبد لمن تأهل، والاختبارات العلمية واختبارات العمل تقيس العقل والقدرة، ولا يعبرها إلا ذوو العلم والمهارة والكفاءة.
الإجازات أيضا عندهم حالة عجيبة، فهي قصيرة بالأسابيع وغالبا ينشغلون خلالها في تدريب إضافي أو مشروع علمي اختياري يجد العناية والتحفيز، لأن عين الجميع على القدرات وحصاد العقل، أما عندنا فلا تكفي الشهور ونتمنى المزيد مع كل عيد، ومع (فوبيا المطر) أو مجرد غيمة، ناهيك عن شبكات التواصل التي تأخذ من أوقات الدوام الوظيفي وبين حصص وبقية النهار والليل، ولا أظن أن المعلم عندنا يستثمر الثورة المعرفية في تعزيز علوم التخصص، ولا الأسرة تبحث عن ثقافة بناء الطفل والحياة،وفي هذا حدث ولا حرج.
بطبيعة الحال الإنسان ابن بيئته، ولهذا ينشأ الأطفال عندهم على ذلك، فباحترام مواعيد نومهم ويقظتهم ودراستهم وترفيههم وعملهم وفق منظومة دقيقة، ويبتكرون بالعقل كل ما ييسر الحياة ويخفف عنهم مشكلات كالزحام وضيق المساكن، لذلك يعيشون حياة نوعية بالكيف وليس بالكم ولا بالطول والعرض، ويعيشون حياتهم واحتياجاتهم في حدود، ويطورون العقل بلا حدود، ويبنون أجسادهم بحدود فيتسوقون على قدر حاجاتهم، وهكذا وجباتهم، حتى (البوفيه المفتوح) بما فيه ما لذ وطاب أمامهم، لا مزاحمة وتدافع ولمس الأكتاف، لاحترامهم للآداب العامة ويقينهم أن الطعام الزائد يثقل العقول ويربك البطون.
المجتمعات تصنع مستقبلها بالعقل والإخلاص والانضباط، وهذا من جوهر ديننا الحنيف الذي نرى تطبيقاته الحياتية عند الغير، أما عندنا فما زلنا نشكو ونبحث عن حلول، يعطيكم ألف عافية.

iikutbi@gmail.com