-A +A
عبدالله الرشيد
في محاضرة ألقاها الراحل جورج طرابيشي بصالون (سبلة عمان الثقافي) في مارس 2012 عن جوانب من تحولاته وانقلاباته الفكرية، وجه أحد الحضور سؤالا كلاسيكيا بالنسبة لطرابيشي، ربما سئم من السؤال وتكراره كل مرة، قال السائل: «ماهي قصتك مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري؟»، قال طرابيشي: «سوف أجيبك، لكن من خلال حياتي الشخصية، وطبيعتي النفسية التي قادتني إلى هذه القصة الطويلة مع الجابري التي أمضيت فيها 25 سنة من حياتي»، بدأ طرابيشي يتحدث عن طفولته، وصدمته المبكرة من والده، التي رسخت فيه عادة الإعجاب بالآباء وتقديسهم، ثم النفور منهم والتمرد عليهم، هي أشبه بعقدة أوديب لدى فرويد كما يقول، فهو يفتت الخبز قبل الأكل، وكأنها غريزة نفسية في داخله بتمزيق الآباء.
أثناء انغماسه في شريط ذاكرته، وهو يسترجع الآباء القدامى، توقف طرابيشي عند قصة حدثت بينه وبين ميشيل عفلق -المفكر العربي ومؤسس حزب البعث-، يقول طرابيشي: «تنوعوا آبائي الذين اخترتهم، في فترة من عمري أول شبابي اخترت ميشيل عفلق، وصرت بعثيا، لكن لم يدم الأمر طويلا لسبب بسيط، وهو أني كنت أتقن اللغة الفرنسية، ولما كانت الوفود الأجنبية تأتي وتريد لقاء عفلق، -وهو مؤلف كتاب مشهور تربينا عليه، اسمه (في ذكرى الرسول العربي)-، كنت أقوم بالترجمة، فسأله الوفد اليوغسلافي الذي جاء لمقابلته حينها: «ما هو آخر كتاب قرأته؟» فإذا بي أفاجأ بجواب صدمني، وأنا الذي كنت أتعبد له وأقدسه، أجاب عفلق: «أنا أفتخر بأني منذ خمسة عشر عاما لم أقرأ كتابا واحدا، وكل ما كتبته هو من بنات أفكاري!». يكمل طرابيشي: «فجعت، فأنا كنت عاشقا للثقافة من صغري، ومحبا للكتب، صعقني هذا الجواب من أستاذي وأبي الذي اتخذته تلك الفترة، كيف يكون مقدسا لدينا في حزب البعث، ثم يفتخر بأنه لم يقرأ كتابا منذ خمس عشرة سنة... فكان هذا ثاني أب أتخلى عنه».

لا يجد طرابيشي أدنى حرج، وهو يتحدث بكل أريحية عن تقلباته وتحولاته الفكرية من البعثية، فالقومية فالماركسية فالوجودية. ولا يتردد في الحديث عن الرموز والآباء الذين كان يقدسهم، ثم انقلب عليهم وأصبح يوجه لهم أشد سهام النقد اللاذعة.
من هنا أجاب طرابيشي عن قصته مع الجابري، وهو الذي اتخذ على نفسه عهدا بعد صدماته وخيباته المتكررة ألا يقدس الآباء أو «يؤمثلهم»، لكنه نسي نفسه وهو يقرأ كتاب الجابري «تكوين العقل العربي»، فسُحر به وذُهل، فاتخذه أبا ورمزا، لكنه لاحقا انصدم منه وفوجئ، فكرس نفسه سنوات طويلة لنقد مشروع الجابري وتفكيكه ونقضه. (انظر قصته مع الجابري كاملة في مقاله الأخير الذي كتبه قبل وفاته، «ست محطات من حياتي»).
هذه الحالة البديعة التي يجسدها طرابيشي في التصالح مع الذات، والثراء المذهل الذي اكتسبه من تحولاته وتقلباته الفكرية، ساهمت بشكل كبير في إحياء الحراك الثقافي وتنشيطه. فهو لم يخجل أبدا، ولم يخف مواقفه السابقة، ولا تنكر لها، أو لاحق الآخرين حتى يمسحوها من ذاكرتهم، بل تحدث عنها بكل صراحة وعلانية على الملأ.
لم يكن هذا التنوع والتحول المستمر نقطة ضعف في مسيرته، إنما هو دليل قاطع على عمق التجربة الفكرية التي عاشها، فأفضت به إلى مسلّمة صرّح بها في مناسبات عدّة ألا وهي «ضرورة الانعتاق نهائيا من أسر الرمز مهما كان نوعه والمضيّ مباشرة إلى ممارسة فعل التفكير الحر».
طرابيشي مثله كعدد كبير من مثقفي جيله العربي، انخرطوا في صفوف الماركسية يوما، تجندوا فيها وأصبحوا كوادر مخلصين في حركتها. يقول: «كان كارل ماركس أحد آبائي السابقين».
مثّلت الماركسية منعطفاً كبيراً في حياته ارتأى على إثرها أن يكون دوره الحقيقي باعتباره مثقفا عربيا هو استعادة وظيفته النقدية والتفكير في حل من الأيديولوجيا، ليقول: «كفى تفكيرا بالماركسية أو ضد الماركسية ولنمر لمرحلة ما بعد الماركسية كما يمر الطفل من مرحلة طفولته إلى مرحلة شبابه»، بذلك مثلت التجربة الماركسية في فكر جورج طرابيشي نقطة عبور مهمة تجاوز على إثرها كل أشكال العبودية الفكرية للرموز، معتبرا أننا «عندما نكون ماركسيين لا نفكر، بل تنوب الماركسية نفسها عنا مناب التفكير»، حيث تشترك في هذا الدور كل الحركات الأيديولوجية كالثورية، والقومية والإسلامية، وهنا مكمن الخطأ الذي تنبه إليه بعد أن كان في إحدى مراحل تطوره الفكري ماركسيا متأثرا بالنقد الواقعي الاشتراكي. فالماركسية بالنسبة إليه كغيره من الماركسيين العرب المتأثرين بها في فترة الستينات، كانت تُعتبر الروح الحاملة للعلم والثقافة وفق منهجها المادي الجدلي التاريخي، لكنه أدرك في مرحلة لاحقة السمة الدوغمائية للاعتقاد الماركسي وجمودها الفكري المتغطرس خاصة مع تتالي الهزائم التي مرت بها. (انظر: ضحى بوعجينة، البعد الماركسي في فكر جورج طرابيشي).
طرابيشي وهو يتخلى عن آبائه واحداً تلو الآخر لم يكن يسعى لهدم مسيرة فكرية كاملة، بل هو يضع كل أب في مرحلة محددة من حياته، حين تستوفي أغراضها أو حين ينسد أفقها وتصبح أداة تعمي العقل، يتجاوزها ويذهب إلى ما عداها. إنه يسعى دائما إلى تحرير العقل من سطوة المسلمات والأيديولوجيا والإعلاء من قيمة المعرفة والنقد المستقل.
قصة طرابيشي مع الماركسية وتحرره منها، تذكرنا بحالة عدد لا بأس به من المثقفين والإعلاميين في الخليج، خاصة في الحالة السعودية، ممن تعرضوا في مرحلة مبكرة من حياتهم لتأثير الصحوة الإسلامية، وربما انخرطوا في صفوفها، وأصبحوا كوادر فاعلين مؤمنين ومخلصين، وحتى متعصبين لها. قد يكون ذلك أمراً طبيعياً باعتبار أن الصحوة كانت الفاعل الأبرز في شؤون النشاط العام، والحراك الثقافي والسياسي، مع الفارق الكبير بينها وبين الماركسية على مستوى العمق والإنتاج الثقافي.
لكن حين انعتق الشباب من مرحلة حماسهم ومراهقتهم، وانفتحت لهم مسارات أكثر تنوعا في الحياة، بدأت عملية النقد والتفكير تتجه إلى ذاتهم وأفكارهم فتحرروا من أسر الحركة الإسلامية، ابتعدوا عنها وتجاوزوها، أو انقلبوا ناقدين لها.
التحول الفكري ليس عيباً، بل دليل على استقلال المرء واتقاد عقله، وحيويته التي جعلته يمتلك قرار ذاته في اعتناق أفكار جديدة. بينما المستسلم لأسر المواقف المسبقة، المرتهن لقيود الموروث سيجد الصعوبات والعوائق، فيجبن ويخاف أن يتجاوز مكانه.
إن انخراط الإنسان في صفوف حركات أيديولوجية في مرحلة مبكرة من حياته، قد يكون مهماً في تكوين وعيه، ونضجه، وصقل تجربته، فهي تمده بمهارات وخبرات قد يكون من الصعوبة اكتسابها خارج إطار العمل الحركي، لكن الحصيف المستقل يعرف أنها مرحلة مؤقتة من حياته، تنطوي، وتنفتح صفحة أخرى أكثر اتساعاً، وأرحب أفقاً.