-A +A
علي بن محمد الرباعي
كلُ يومٍ يصافحني فيه وجه أمي تبتسم لي كل صباحات العالم. تخضرّ الأرض حولي. يلين قلبي، ويطيب النظر إلى السماء. ما أكرمك يا الله وأنت تستودعنا منذ كنا نطفا أرحب الأرحام. وأحن الأجساد وأصلبها. وتحيطنا بأبرك قفص عظام. وتربط ضعفنا بأقوى حبل بعد حبلك المتين. لو تدمر الكون أجمع. وغارت الكواكب وقررت أن لا تطلع. ونشفت البحار وعادت الأرض كأنها بلقع. وأحالتني الأيام إلى بائس في فقر مدقع. وحرمت من نعم كثيرة. لن أشعر بأي فقد طالما كانت أمي جواري. سرحت لتستقي الماء بالقربة وكنتُ أصولُ وأجول في بطنها. مستعجلا القدوم إلى الحياة. وصلتْ إلى رأس البئر وسحبت الدلو الأول. كادت تفقد القدرة على التحكم بنفسها. نظرتْ إلى السماء فجاء المدد. حملت القربة الممتلئة وتحركت صاعدة باتجاه القرية المتلاحمة جدران بيوتها كصناديق البريد. في هدوء دخلت البيت وعلّقت قربتها. استقبلتها جدتي لأبي (أمي رفعة) عليها رحمة الله. وأوقدت لها نارا وأسهمت في تهيئة فراش مناسب لهذه الأوضاع الخاصة. جئت إلى الحياة صباح أحد. تناولتني كفوف جدتي البيضاء. أطلقتْ الاسم. لم أصرخْ وإنما عطستُ لأني استنشقتُ رائحة القرض. كان أبي رحمه الله مسافرا. صبّت بالميجر في أنفي سمنا من سمن بقرتها المباركة. حنّكتني بحبة تمر وقصّت سري ودفنته في أحب البلاد لقلبها. لفتني في إحرام ووضعتني بجوار أمي التي سكن وجهها وابتسامتها وسخاءها كل نواة وخلية في جسدي. رضعتُ منها حتى مشيتُ على قدمي. رفضت الرضاعة الصناعية وعندما فطمتني قسرا تعلّقت بالطين في جدران المنزل فما أن تغفل عني حتى أبدأ النحت والنقب ومضغ تراب الوطن المملوح. سمعتُ أناشيد وأغاني كثيرة إلا أنها لا ترقى إلى نشيد أمي وهي تُفْلي رأسي قبل النوم وتردد (يا سعيد يا هلال. ألقاني في المسيد. أعشيك وأغديك. واقطع لك رأس الديك. بالمسحاة والعطيف) وقرأت معظم روايات الأدب العالمي والعربي إلا أن قصة (شطيّر. وأبو نيّة وأبو نيتين) اللتين كانت ترويهما كل مساء تفوقان في سردهما ومضامينهما (مائة عام من العزلة) و(سمرقند). أمي عيدي البهيج دون حاجتي ليوم حدّده كائنٌ نسّاء لكائن عاق. علمي وسلامتكم.