-A +A
علي بن محمد الرباعي
تعارفت القرى على أن (يد مع يد تنفع حتى في أكل العصيدة). كان العمل قيمة مشتركة. الصغير والكبير. الذكر والأنثى. كانت الأعناب سيدة الأودية. العنب ظل وخضرة وأنس لوحشة الروح وعناقيده أجنحة مهيضة لأفئدة شبها العشق وأرقتها لوعة الفراق. أحد شبان القرية خطب فتاة من قرية مجاورة. فردت أمها: والله ما نعطيك بنتنا وأنت ما معك عنبة تتحمض بها إذا جاها الوحم.
في الصباحات القروية الجميلة كنا نتقاطر إلى الوادي والغطاش (الزبد) متشبث برموش أعيننا كالنحل الملتصق برحيق الزهور. نحمي الطير ونمنع العصافير من الوصول لعناقيد العنب. ولم يكن لصغر السن اعتبار عند الكبار ما دمت تزاحم على صحن الخبزة، فبقدر ما ينزل في بطنك تنزل ما يوازيه من عرق جبينك. (ومن كل بحسب طاقته أو فوق طاقته وله بحسب حاجته أو أقل من حاجته). ينوء عريش العنب بالخصل. وطير (القرع) يتربص.

أحد أجدادنا غضب على هذا الطائر الذي يحل مع غروب الشمس وينقر العنبة ثم يشفط منه جرعة المساء ويسدها بطين. طارده جدنا الحريص من الباحة وما فك عنه إلا في برحرح مسافة 80 كم. قلقت القرية بأكملها وسرت شائعة أنه سقط في إحدى الآبار فهب المتعبون من مراقدهم. أشعلوا فتائل (الأتاريك القاز) وانطلقوا يفتشون في الأودية. ويرددون النداء من فوهات الآبار. انقلبت القرية ولم تنم حتى مطلع الفجر. وإذا بمطارد القرع عائد وأنبأهم النبأ فرددوا بصوت واحد (صاح الله عليك إن كان تسوي هذي السواة فينا).
أحد أبنائه كان دائم الاحتجاج على شح أبيه. وذات صباح قطفنا من أعنابهم ووضعنا الخصل في حثولنا وبدأ القضم من الرازقي. الابن يشاركنا بنشوة ويردد (إذا كان حق أبوك مأكول فكل مع الأكالة) وفجأة ظهر الأب فتقافزنا ولحق حجر بظهر الابن لا يزال علامة حتى اليوم.
بعد موسم خير من العنب والزبيب، حل الشتاء وكادت الحياة تتجمد. جفت مشاعر الناس. قست قلوبهم فشد العنب من الأودية. بقي صدى شاعر يتردد هنا (باح العنب يا صاحبي فاقضم العود). علمي وسلامتكم.