-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كالسفينة المتعبة كنت أتابع محطة CNN وأتأمل مكتبتي وأنظر إليها كالطفل اليتيم أمام ثياب أبيه الراحل وأبلع الحزن، ذلك لأنه يبدو لي أن هذه الكتب المكدسة لن يقرأها أحد بعدي، فأولادي سوف يكونون لا محالة من جيل القنوات والإنترنت، ولقد تخيلت هذه المكتبة والتي أضعت عمري في تكوينها، إنها ستصبح ديكورا عتيقا في طرف الدار، وتصورت أنه حتى لو فكر الأنجال والأحفاد التخلص منها فلن يجدوا من يشتريها منهم !! لقد خالجني كل ذلك الشعور وأنا أشاهد خريطة العالم تنكمش وتضيق، وتذوب حدود الدول وتسقط ككتل ثلجية على هذه الشاشة الفضية التي أصبحت مصدر الفكر والثقافة والمعرفة لجيل العصر يستقي منها الطفل والشاب ثقافته المرئية والمسموعة، ولقد استطاع هذا الاختراع العجيب أن يقلص من المساحة الزمنية التي كانت تعطي كلا منا الفرصة للقراءة والجلوس إلى الكتاب.. وجاءت القنوات الفضائية لتأكل كل المساحة فما يكاد الطفل والشاب أن ينتهي من أداء واجباته الحياتية حتى يتكوم أمام هذه الشاشة التي أصبحت تقدم له المعلومة التي يتداولها والأغنية التي يشدو بها وأضحت فكره وأدبه وثقافته وتقليعته!! ونتيجة لذلك تراجع دور الكتاب وكاد يختفي من حياة الجيل الحالي.. مما حدا بالبعض إلى أن يقول إن الأجيال القادمة قد لا تحتاج إلى الدواة والمحبرة ليسقوا بها عطش الورق وإنه لا مكان للكتاب في خزائن هذا الجيل، فالثقافة القادمة هي الرقص الإسباني الذي يستحيل فيه الأصبع إلى فم !! وهي في نظرهم ستصبح هواء مشاعا يتنفسه الجميع بغض النظر عن مصدره، وإن الفكر القادم سيكون أكثر الكائنات العصرية قدرة على السفر والرحيل والتجول بين القارات.. وأنا لست ضد هذا الرأي.. ولست متحمسا له أيضا بل وضد التسرع في إصدار الأحكام العامة، إلا أنني ما زلت أتخيل الثقافة المرئية كأفلام رعاة البقر التي لا تتجاوز الإثارة فيها سطح الجلد.. ورأي أن قرار الزمان في أن يستريح الكتاب قرار ليس عادلا، وأن تقاعد الكلمة المكتوبة لأنها أصيبت بلين العظام تقاعد مبكر للشاب في الثلاثين.. وما أعتقده وأتصوره أن الكلمة المكتوبة فقدت غريزة المشي وموقفنا من الكلمة المكتوبة التي تمشي هي موقفنا من الحياة نفسها، فجيل الأطعمة المحفوظة والوجبات السريعة جيل يريد أن يلتهم الكلمة بنفس السرعة التي يلتهم بها «البك ماك» في ماكدونالدز ويستمع فيه إلى النغمة السريعة في «اليوتيوب». لذا فلا بد أن يكتب الكتاب بلغة تتناسب وعصر هذا الجيل حتى يكونوا جزءا من شفاههم وحناجرهم وصحفهم ومجلاتهم ورسائلهم، فهي اللغة التي يعيشون بها ويحبون بها ويقرأون بها ويضحكون بها ويبكون بها ويحزنون بها ويبتهجون بها !! لقد أثبت تاريخ الفكر الأدبي أن أروع آثار الفكر التي عرفها الإنسان هي القلم المكتوب وأن الكلمة البسيطة الرصينة القريبة من القلب والناس هي الكلمة التي يعيشون بها والتي تدق أبواب بيوتهم ويتداولونها ويتناولونها كقطعة خبز صالحة مع كل الوجبات، فالإنسان هو الذي يصنع دائما قوالبه وليست القوالب هي التي تصنع الإنسان.. كيف نكتب لهذا الجيل هذا هو الإبداع المنتظر !!