-A +A
إبراهيم إسماعيل كتبي
أزمات السياسة والاقتصاد في العالم وما يحدث في الدنيا ومتاعب الحياة، تلقي بظلالها وتضع بصماتها السلبية على إنسان العصر الذي تغيرت نفسيته كثيرا، وتؤثر على أجيال باتت أسيرة التواصل الالكتروني والإدمان عليها والاستسلام لها، فأصابت بوصلة العقل وتوازن النفس البشرية، وبات من الطبيعي أن تغرق فيها عقول غضة لا تزال في عمر التشكيل فيما ضاعت مفاتيح الأسرة.
هذا الطوفان سرق البهجة وزاد من التوتر، ولم تعد الأسرة والمجتمع ولا حصص الدراسة حاضنة متجذرة لقيم الحياة الصحيحة، وإنما دوامة لا نهاية لها من الشد والجذب والاشتباكات على شبكات وغرف التواصل، فتضخمت (الأنا) حتى لدى صغار السن لشعورهم بحرية مفتوحة يحلق في فضائها وتستدرجه دهاليزها دون رقابة أو توجيه، وأصبح حال الكثيرين من سكان هذا العالم في حالة حرب بقواميس الكراهية.

هذا الاختطاف لعقول الأجيال أصاب الدور التربوي الأسري والاجتماعي بحالة عجز وارتباك، وبات من السهل وقوع مراهقين وشباب في مصائد الانحراف والأخطار، وتسلل الانفصال الذهني والنفسي عن رباط الأسرة، وضعفت صلاحيتها التربوية، وكأن البيوت تحولت إلى (فندقة) لا يهم فيها من يقاسمك المكان ولا الجار لغرفتك، المهم أنك مع عالمك الخاص داخل أجهزة الحاسوب أو الهاتف الذكي.
شيئا فشيئا تنتهي للأسف روابط جميلة كانت متجذرة في الحياة زمان، وكنا إلى وقت قريب نترحم على روح المجتمع وأخلاق الحارة، واليوم نترحم على روح الأسرة والصداقة إلا ما رحم ربي . ولنتأمل أحوالنا، ليس من قبيل المراقبة، فمن راقب الناس مات همّا، وإنما لنرصد إلى أي مدى تغيرنا وماذا أصابنا، في البيت وفي العمل وفي الشارع وفي الأسواق والجالسين في قوائم الانتظار داخل أي مصلحة أو جهة خدمية، وحتى كثير من قائدي السيارات أمام إشارة حمراء أو أثناء السير، تجد الصورة واحدة، الناس في (عالم آخر) مع أجهزتهم الذكية، فلا تركيز على الطريق ولا في العمل ولا الدراسة، ولا مع الناس من الأساس.
الحياة اليوم تتقلب على جمر العالم الافتراضي بعد أن توفرت المعرفة وزالت أبوابها وشبابيكها، حيث اختلط الحابل بالنابل والطيب والخبيث، وحامل المسك ونافخ الكير، وواحات الكلمة الطيبة ومصائد الفكر الضال عابرة القارات، فمن ذا الذي يستطيع أن يسيطر على هذا العالم إلا من يمسك حقا بمفاتيحه، ومن ذا الذي يضبط ايقاعه وكيف؟! أسئلة كثيرة حائرة عن رياح وحروب جديدة سلاحها العالم الافتراضي، كانت خيالا وأصبحت واقعا.
التطور بالتأكيد شيء جميل ومبهر ويفيد البشرية ويقدم لها خدمات سريعة وإنجازات عظيمة في كافة المجالات، لكنه في عصرنا تجاوز سرعة الصاروخ، كما يقال، والحقيقة المؤكدة أن من ينتج التطور وتقنياته ويضبط استخداماته بثقافة الوعي، يحدد مكانه في العالم وينافس بقوة ليحافظ عليه، أما من يستهلك ويسلم عقله ومفتاحه لهذا الإدمان فيضيّع وقته وعقله وحواسه، ولن يكون من العجيب أن تعطب نفسه ويفقد دوره الإيجابي في الحياة.
الحياة المعاصرة أخذت بتلابيب العقول وتحتاج إلى حضور قوي ومؤثر للأسرة ومن القوة الناعمة للثقافة الإيجابية، لضبط إيقاع الاستفادة من روح العصر بالإنجاز، والتحرر من ربق السياج الإلكتروني وطوفان تأثيراته، وتقوية شرايين الوعي وجسور الحوار، إذا أردنا ضمانات حقيقية لصلاح الحياة والاستفادة الإيجابية من هذا التطور الهائل دون إفراط أو تفريط، فداوها بالتي كانت هي الداء، وغير ذلك ستتسع العبثية.